اليهود العراقيون الشبان يحدثون أنغام الأجداد






خاص بـ"موقع الحرة"- علي عبد الأمير

وجد الأخوان صالح وداود الكويتي عزاءً جميلاً متأخراً يليق بأثرهما الغني في نقل الغناء العراقي من الشفاهية والتقليدية إلى الحداثة النغمية والصناعة الموسيقية المعاصرة خلال السنوات 1925-1950، حين باتت أنغامهما تعيش شبابا جديدا مع جيل جديد من اليهود العراقيين الذين لم يكتفوا بالوفاء لتلك الأنغام بل وتحديثها بما يعطيها حياة متجددة حتى مع عصر صاخب في تحولاته.

صاغ الكويتي لحناً قائماً على السهل الممتنع، لجهة بساطة النغم (..) لكن بنسيج نغمي تصويري يحاكي تدفق النهر
وتمثل ذلك العزاء بسيرة غنائية مثّلها دودو تاسا، حفيد داود الكويتي من ابنته المتزوجة من يهودي يمني، وتحديداً الشق "العراقي" من تلك السيرة، والذي بدأ فعلياً في العام 2009 مع تقديمه أغنية "فوق النخل" الشهيرة ضمن توزيع جديد راعى الأصل، على الرغم من تقديمه وفق أسلوب فرقة لموسيقى الروك.

المغني دودو تاسا وفرقته في فيديو أغنية "على شواطي دجلة"
المغني دودو تاسا وفرقته في فيديو أغنية "على شواطي دجلة"
وبدا وفاء تاسا لإرث الأخوين الكويتي لا في اصدار أسطوانة تحمل اسمهما وحسب، بل في الصناعة المبهرة التي تمنح ألحانهما روحا جديداً، وهو ما تجسد في تقديمه الفذ لأغنية "على شواطي دجلة" التي لحّنها صالح الكويتي وقدمتها بصوتها أول مرة المغنية (اليهودية) العراقية الراحلة سليمة مراد.

في تلك الأغنية صاغ الكويتي لحناً قائماً على السهل الممتنع، لجهة بساطة النغم الذي يترسخ في الذاكرة عبر ترديد اللازمة "على شواطي دجلة.. مر" ولكن بنسيج نغمي تصويري يحاكي تدفق النهر، فجاءت المقاطع مطواعة التأثير تندفع بتأثيراتها شيئا فشيئا في روح المتلقي ومشاعره، مثلما اتصل اللحن بشكل المتوالية الغربية "الروندو"، وهذا انعكس في أداء سليمة مراد للأغنية، حين جاء صوتها متأسيا، رغم ما عرف عنه من قوة واضحة.

جيل جديد من اليهود العراقيين لم يكتف بالوفاء لتلك الأنغام بل حدثها بما يعطيها حياة متجددة
لقد حملت الأنغام، قديمها وجديدها، تلويحات أشواق وفخر وأوصاف للذكرى متوجهة بما يشبه التحية لبغداد ورمزها الحي المتجدد أبد الدهر: نهر دجلة. لكن قلة منها عنت بالملامح الطبيعية والبشرية التلقائية لذلك الرمز، بعيدا عن المناسبات "الوطنية" أو التربوية الموجهة، بل إن من بين تلك القلة ما بدا مخلصا لعبقرية المكان الطبيعي، أي النهر والملامح الإنسانية المتشكلة حوله ومنه. وأغنية "على شواطي دجلة.. مر" هي تمثيل فذ لذلك المعنى الفريد الذي يتدفق طواعية في مشاعره كما مويجات النهر وشواطئه.

الأغنية هي من إبداع ثنائي خطير، لو نظرنا إليه بشيء من الإنصاف لكان من أوائل الذين وضعوا الأساس لهوية وطنية روحية وثقافية عراقية، فقد صاغ كلماتها الشاعر والباحث والصحافي عبد الكريم العلاف، ووضع لحنها المطواع، صالح الكويتي، وهو ثنائي لها معظم ما بات يعرف بالموروث الغنائي البغدادي.

شواطئ نهر دجلة حضرت عبر استخدام تقنية ايقاعية مبتكرة جعلت المستمع في استهلال الأغنية وكأنه يصيخ السمع لمويجات النهر المتدفقة
وحين تولى دودو تاسا إعادة إنتاج الأغنية بحسب فرقته الموسيقية المعاصرة، فهو أحسن صنعا حين مزج الآلات الغربية مع الشرقية (القانون تحديداً) التي قام عليها اللحن الأصلي.

ومع تلك النقرات التي وفرها العازف المقتدر، أمكن دفع الأغنية لا إلى تأثيرها النغمي الأصلي وحسب، بل إلى تأثيرها المكاني: شواطئ نهر دجلة التي حضرت عبر استخدام تقنية ايقاعية مبتكرة جعلت المستمع في استهلال الأغنية وكأنه يصيخ السمع لمويجات النهر المتدفقة.

المغني دودو تاسا وفرقته في فيديو أغنية "على شواطي دجلة"
المغني دودو تاسا وفرقته في فيديو أغنية "على شواطي دجلة"
كما أن هذه الأجواء الشرقية العميقة مكّنت المغني تاسا من التغلب على عسر بعض الألفاظ في نص الأغنية على الرغم من كونه كان مكتوباً بعراقية دارجة مفهومة أقرب إلى العربية الفصيحة، بل إن حسن التدبير الموسيقي هذا، جعل المستمع يغض النظر حتى عن هذا العسر في نطق الكلمات، لا بل جعلته يقدم بمحبة على الأصوات مجتمعةً: الآلات والمغني.

لا أظن أن تقديرا وثناءً عاليين كان يحلم بهما الموسيقيان العراقيان اليهوديان صالح وداود الكويتي كالذي جاءهما من الحفيد دودو تاسا، فهو من جعلهما على ألسنة أجيال جديدة واسماعها، لا في محيطهما الاجتماعي بل أجيال جديدة في بلادهما الأصلية.


الحرة


AM:11:32:06/04/2019




264 عدد قراءة