رحيلك مفجع وفي غير آوانه..*
رحمن غریب


لا أعرف من أين أبدأ وبما أنتهي؟ وقد جاء رحيلك المفاجىء وفي غير أوانه، لينهي ومضة جميلة في حياتي، فكلما تعقدت الامور واشتدت الصعاب وضاق السبيل امامنا، كانت تلك الومضة وكشريط سينمائي تحفز الذاكرة، لتعيد ايام النضال السري الصعبة التي جمعتنا سوية، تلك الايام الجهنمية التي كانت حينها مجرد كلمة ضد النظام الفاشي، قد تؤدي بصاحبها الى مقصلة النظام التي لاترحم!

كنت أنت يارفيقي وصديقي وأخي دانا: الباحث بين ركام الموت والخوف والخراب، عن العدالة والحق والمساواة للوصول الى حياة افضل للناس والوطن، تمدنا بالعزم والاصرار على مواصلة السير في طريق النضال لبلوغ الاهداف التي حلمنا بالوصول اليها.

لم تكن كلماته واسلوبه المقنع وعمق بصيرته وثقافته الواسعة، هي فقط من يمنحنا الامل ويشد من أزرنا لمواصلة المسيرة، بل كانت شجاعته واقدامه على تنفيذ المهمات الملقاة على عاتقه، وما يقدمه من نموذج يقتدى به، يجعلنا نتقدم الصفوف لتنفيذ المهمات الملقاة على عاتقنا، مهما بلغت صعوبتها، بل وانها تكون في بعض الاحيان أشبه بالمغامرة.

ولكن ماكان يبدو لنا مغامرة، كان في ذهن دانا، استشراف عميق لطبيعة النظام وعزلته، والوضع المحيط به، لذلك تكلل كل عمل شاركنا به معه بالنجاح وتحقيق الاهداف التي كنا نسعى لها.

كان حلو المعشر لمن عايشه عن قرب، على الرغم من أنفعالاته وتعنته في بعض الاحيان، وصراحته التي لاتقبل المساومة ولا الدبلوماسية المنافقة!

سار على درب الآلام حاملا صليبه معه اينما حل وارتحل، منذ الولادة في خانقين، مدينة العز والمقاومة ورفض الاذعان للذل، والتي رفضت التخلي عن كوردستانيتها، على الرغم من شراسة الهجمة التي تعرضت لها، الى تخرجه من الثانوية في شهربان مدينة الرمان الحلو المذاق، الى حصوله على شهادة العلوم الاقتصادية من جامعة المستنصرية التي تمثل عبق التاريخ البغدادي.

وعلى الرغم من معايشته لهذا التنوع الجغرافي والاثني والديني والاجتماعي والطبقي، لم ينبض قلبه ولم يعشق سوى دروب ومحلات وحواري الفقراء والمعدمين والمهمشين، وتوقف قلبه الجميل عن النبض وهو يحلم بتحقيق العدل والمساواة وانتشال الفقراء من وضعهم المزري هذا.

وحين حاصرته الذئاب الصفراء في بغداد، أبان الحملة الفاشية ضد القوى الوطنية والديمقراطية، لم يجد بدا سوى العودة الى مدينة السليمانية، موطن الآباء والاجداد، مدينة الثورة والثقافة والنضال، ولم يكن ذلك هروبا، بقدر ماهو منطلقا لمرحلة جديدة من النضال، وهنا أكاد ان اجزم ان مرحلة جديدة في حياتي النضالية قد بدأت منذ تعرفت عليه وعلى عائلته المناضلة.

لقد زادت شحنة الاقدام والجرءة والاستعداد غير المحدود للتضحية بالغالي والنفيس من اجل القضية التي آمنا بها، وفي قلبها قضية العدالة الاجتماعية والدفاع عن الفقراء والمهمشين.
وواصل المسير على خريطة وطن مجزء، من خانقين الى كركوك والسليمانية مرورا بمريوان ومهاباد وسنندج، وصولا الى ديار بكر وماردين وهكاري وعنتاب وانتهاءا بعفرين والقامشلو وكوباني، فسخر حياته لنصرة ابناء جلدته في جميع اجزاء كوردستان، وفي كل ذلك لم يتخلى عن انسانيته وامميته، فهو نصير المضطهدين بمختلف مسمياتهم وقومياتهم واديانهم وطوائفهم، لذلك كان اصدقائه ورفاقه ومحبيه يتوزعون على مختلف النحل والملل، من العرب الى الترك الى الفرس، ومن المسلمين الى المسيحيين واليزيديين والصابئة المندائيين.

اجد نفسي عاجزا عن توصيف هذا الانسان الذي استوطن القلب قبل العقل، وكما يقول الشاعر الكبير مظفر النواب، اذا اضعت المسارات فليكن قلبك هو البوصلة، لذا اقول ومن لبة القلب، عرفت رفيقي دانا عاشق للثورة والانسان، وفي احلك الظروف متمردا على الظلم والقهر، ومناضل لايعرف المهادنة على الحق.

كان شجاعا وصريحا وصديقا للرجال الاشداء، كارها لاشباه الرجال والاذلاء منهم، وكان حاقدا ولايخفي حقده على قوى الظلام والطائفية والاحزاب الكارتونية التي تقوم باستلاب حقوق الناس من اجل الاغتناء على حساب قوت الشعب وموارد البلاد.

وضد كل هذا الخراب الذي طبع بلدان الشرق، انطلق دانا جلال بهمة كبيرة، سواء كان متواجدا في كوردستان او في الغربة، ليساهم في العمل من اجل تغيير هذا الواقع البائس، سواء بكتاباته التي نشرها في الكثير من المواقع الالكترونية والمطبوعات الورقية، والتي أختار ان يوقعها بأسم دانا جلال القرمطي، اعتزازا بتلك الحركة القرمطية التي انطلقت من جنوب العراق وحررت العبيد وساوت بين الناس ومثلت نموذجا لتحقيق العدالة الاجتماعية، وشكلت حينها خطرا داهما على الدولة العباسية التي وصلت حدودها من الصين شرقا الى الاندلس غربا.

ولم ينجو من انتقاده في كتاباته لا السلطات المهترئة بالفساد والسرقات، ولا الاحزاب التي خدعت الناس بثوريتها لتنتج سلطات لاتقل فسادا وقمعا عن نظيرتها، ولا الاحزاب البرجوازية المستعدة دائما وابدا ان تضع يدها مع اعداء شعبها من اجل تأمين مصالحها.
وداعا ايها النقي الذي اتعب قلبه هموم شعبه.. وداعا ايها السامق والباسق كشموخ جبال كوردستان.. وداعا ايها الشجاع الجسور المقدام ..وداعا ايها المناضل الذي ما هادن ولا انحنى ولا خادع ولا انثنى.

كتب في وصيته ( مادام هناك حلم، يمكننا معايشة الواقع ) لذلك سنظل نحلم من اجل ان نعايش واقع فراقك وفراق كل الاحبة مثلك.
 
 
* كلمتي في الحفل التابيني لاربعينية الكاتب والصحفي دانا جلال الذي يقام اليوم في ستوكهولم


AM:05:50:26/06/2018