دور الإعلام في صناعة العنصرية العالمية
عمار مطاوع

"في البداية نصنع العدوّ. تأتي الصورة قبل السلاح. نقتل الآخر بفكرنا قبل أن نتّخذ الساطور أو الصاروخ لإتمام القتل. تسبق الحرب الدعائية، التقنية العسكرية"
سام كين في مجموعة قصائده" وجوه العدوّ"

كيف يتشكل وعي الناس؟ وكيف يبني العوام تصوراتهم عن الأمور التي يجهلونها؟ هل نقتصر في فهمنا للواقع على ما نعاينه بأنفسنا؟ ولماذا يتخيل الكثير شكل «الشيطان» صاحب الذيل الأحمر الطويل والشوكة الثلاثية؟ من صنع هذا بعقولهم؟ وكيف يصدق الناس -حتى من يعرف أنها كذبة- هذه الكذبة؟
 
يتساءل الدكتور منير وانعيمي، المحاضر بجامعة نورثويسترن، عن طريقة تشكيل وعي الناس عمّا يجهلونه، ويقول إنه حين يعجز عقلنا عن خلق تصور ذهني لفكرة ما، فإننا نقوم باستحداث مخططات ذهنية لها، بناءً على مخططاتٍ أخرى موجودة مسبقاً. 
 
• العنصرية عملية توليدية:
من مسؤولية الإعلامي انتقاء السياق للمتلقي، والمساعدة في تشكيل المخططات المُيَسِّرةِ للفهم والإدراك، وهنا تزيد صعوبات التعامل مع خلفيات المتلقّين في الظروف التي يتوجه الإعلامي من خلالها لجمهورٍ عريضٍ وواسعٍ ومتنوعٍ
يؤكد «وانعيمي»، في محاضرة له بعنوان «خيارات لسانية لمحترفي الإعلام»، أن بإمكاننا توسيع فهمنا للعالم وتشكيل معارف جديدة انطلاقاً من توليدنا لبناءات ذهنية جديدة مركبة ومعقدة، ولكن في الآن نفسه، يمكن لهذه العملية التوليدية المستمرة أن ترسي مفاهيم خاطئة، تصبح منتشرةً ضمن نسيج معرفتنا ونظرتنا للعالم.
 
مثال ذلك، أن معظم العنصريين لا يعرفون الكثير عن الفئات الدينية أو الأثنية التي يكنّون لها الكثير من الكراهية أو يشعرون منها بالخوف، ولكنّ قبول أفكارٍ نمطيةٍ عنها، سواءٌ عبر الإعلام أو التربية، رسّخ هذه الأفكار ونمّاها وغذّاها لتصير نظاماً معرفيّاً متكاملاً.
 
بإمكانِ هذه الأفكار الخاطئة أن تؤثّر أيضاً في تشكيل ردّات الفعل الحسية، التي لا يحكُمها منطق، فعندما يخرج شرطيٌّ مسدّسه ويقتل مواطناً أسوداً في أمريكا مثلاً، لا يكون الأمر دائماً عملاً عنصرياً متعمّداَ ومقصوداً ومخططاً له، بل يكونُ في أحيانٍ كثيرة ردّة فعلٍ معاديةٍ لا منطقيةٍ أثارها الفزع الذي تكوّن عبر تراكماتٍ من الأفكار النمطية عبر السنين.
 
ولذلك لا يمكن بالسهولة التي يتخيلها البعض معالجة مشاكل من قبيل العنصرية ومعاداة الأقليات، فهي تحتاج إلى تغيير قناعات بدت راسخة مؤصلة في نفوس أصحابها، تم بناؤها على مدار عشرات السنين عبر الإعلام والتعليم والأحاديث العامة من آخرين تعرضوا لنفس المخادعة.
 
• الإعلام وتشكيل الوعي التوليدي:
يعتمد الكثير من عوام الناس في تشكيلهم لفهمهم للعالم على ما يصلهم من المحتوى الإعلامي، وبذلك يكون لمحترفي الإعلام دورٌ مباشرٌ في تشكيل معرفة المتلقي.. ولأنّ الأفكار والمعارف التي يبثّها الإعلامي كفيلةٌ بالتأثير البعيد المدى على المتلقّي، وجب عليه أخذ الحيطة والرجوع لأخلاقيات مهنته في تشكيلهِ للوعي العام.
 
وهنا الخطورة، يتعامل الإعلامي مع جمهورٍ يبني إدراكه للعالم على مخططاتٍ معرفيةٍ مسبقة، الإعلامي هو نفسه جزءٌ من مجتمعه وبالتالي له مخططاتٌ تحكمه في فهمه للعالم أيضاً. ولكنّ وظيفته في الإخبار والتحليل وإبداء الرأي تُحتم عليه تبنّي فكرٍ نقديٍّ يُمَكّنَه من إدراك محاسن المخططات المفيدة التي تتناسب مع المحتوى الذي يقدمه، فيقوم بتفعيلها واستغلالها، ومن إدراك خطورة الأفكار المسبقة غير الدقيقة، فيقوم بتحييدها والوقاية منها.
 
من مسؤولية الإعلامي انتقاء السياق للمتلقي، والمساعدة في تشكيل المخططات المُيَسِّرةِ للفهم والإدراك، وهنا تزيد صعوبات التعامل مع خلفيات المتلقّين في الظروف التي يتوجه الإعلامي من خلالها لجمهورٍ عريضٍ وواسعٍ ومتنوعٍ عبر وسائل الإعلامٍ الواسعة الانتشار. ولذلك يصبح من الضروري بذلُ مجهوداتٍ أكبر لبناء قواعد مفاهيمية مشتركة، وتضمين ذلك بشكلٍ إبداعيٍّ في المحتوى الإعلامي.
 
• صناعة الكراهية:
لأنّ الأفكار والمعارف التي يبثّها الإعلامي كفيلةٌ بالتأثير البعيد المدى على المتلقّي، وجب عليه أخذ الحيطة والرجوع لأخلاقيات مهنته في تشكيلهِ للوعي العام
يقول جوزيف جوبلز وزير الدعاية النازي في عهد هتلر إنّ أفضل تقنيات حرب الدعاية هو الاقتصار على نقاطٍ محددةٍ بعينها وتكريرها مراراً وتكراراً على مسامع الناس.
 
ولا يخفى أن العديد من مشاكل العنصرية وكراهية الآخر تبدأُ من منابرِ الإعلام.. هل يمكن أن يكون خبر عنصري تافه في صحيفة مغمورة، سببًا في خلق أعزم حرب في التاريخ؟ هل تلك الانتقامية البادية في حرب سوريا مثلا قد تكون تراكمات تربوية وإعلامية واجتماعية لجيل تم تغذيته منذ صغره على كره طائفة أخرى؟
 
للأسف الشديد، لا يقتصر هذا التأثير السلبي على ما يُقال فقط، بل يتخطاه أيضا إلى المسكوت عنه أيضاً، فحين تتسابق صفحات الأخبار في الغرب مثلاً على بثّ قصصٍ متتاليةٍ عمّا يُسمونه بالإرهابِ الإسلامي والتطرّف القرآني، بينما يكاد لا يتناول أحدٌ قصصاً يشترك الإنسان المسلم مع غيره من خلالها في الإنسانية، أو القصص التي تتناول مبادئ الإسلام وتعاليمه الحقيقية، أو حتى الحديث عن العرب المسيحيين مثلاً، وعن أدوارهم المتميّزة في بلدانهم العربية.
 
• العنصرية الديموقراطية:
عادةً ما تتعدى هذه الأفكار مجال الفردية لتشمل الفكر الجمعيّ المجتمعيّ أيضاً، فعندما يتبنّى مجتمعٌ بأسره حزمةً من الأفكار المسبقة عبر الإعلام، يقوم باختيار ممثّليه وساسته الذين ينسجمون مع أفكاره، وبذلك تنطلق عملية إنتاج المتعصبين من الساسة، وتهميش المستنيرين، ومن خلال الآليات الديموقراطية نفسها!
 
الخلاصة أن الكثير من الناس يعتمد في تشكيلهم لفهمهم للعالم على ما يصلهم من المحتوى الإعلامي، وبذلك يكون للإعلام دورٌ مباشرٌ في تشكيل معرفة المتلقين.. ولأنّ الأفكار والمعارف التي يبثّها الإعلامي كفيلةٌ بالتأثير البعيد المدى على المتلقّي، وجب عليه أخذ الحيطة والرجوع لأخلاقيات مهنته في تشكيلهِ للوعي العام.
 
على الإعلامي أن يدرك خطورة مهنته وحجم الأمانة التي يقوم عليها، فإن البثّ المتكرّر للأفكار النمطية، والقصور عن تغطية الظواهر بشمولياتها يفرزُ نتائج مجتمعية بعيدة الأمد، غير متخيلة ولا محمودة العواقب.

AM:05:22:27/03/2017