جدل القضية والإسم!
د. لاهاي عبد الحسين
تناول الأستاذ غالب الشابندر موضوعة مهمة ومثيرة للإهتمام في مقالة نشرت له في صحيفة المدى بتاريخ 21 حزيران الماضي جاءت بعنوان "أنتقدوا الظواهر لا الأشخاص"، تطرق فيها إلى التحسس من الكتابة عن عدد كبير من المشاكل التي تعج بها البلاد من قبيل الفساد المالي والإداري والتجاوز على هيبة الدولة بالإسم الشخصي لمن يتورطون بها وليس بالإكتفاء بالإشارة إلى القضية أو الظاهرة على وجه التعيين.

 وهذه مسألة مهمة طالما شغلت المختصين في مجال العلوم الإنسانية وهي التي تتعلق فيما يسمى جدل القضية والإسم أو البنية والفرد. كل هذه مفردات لا تبتعد عن صلب الموضوع المطروح من حيث أنّها تتعلق بثنائية متداخلة يصعب الفصل بينهما وبخاصة على مستوى الوصف والتحليل في وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي بإعتبارهما قنوات مهمة للتفاعل والتبادل الذي يمكن أنْ يساهم ببلورة مواقف وآراء وقد يطور الوعي والإدراك بأهمية هذه القضية أو تلك.

 فمن الأجدر بالتناول القضية أم الإسم! يبدو لي إنّ التعرض لقضية من نوع ما مهم وقد يكون أكثر أهمية من التعرض لها بالإسم الا اذا اقترنا معاً بصورة مؤكدة وموثقة.

 فالقضية أكثر بقاءً ومثابرة من الفرد. تماماً كما الثقافة والوطن نموت ونُنسى ويعيشان ويتجددان وينجبان الكثير دون الحاجة إلينا كأفراد. قد يسرق فلان ونستاء من فلان ونرغب في أنْ ننال من فلان ولكن هل ستتوقف السرقة كسلوك وممارسة من خلال إستهداف شخص السارق بحد ذاته أم أنّ هناك حاجة لإستهداف البيئة والحاضنة التي سمحت لمثل هذا السلوك بالظهور والتنامي في مجتمع صارت فيه المؤسسات الرسمية صناديق أمان وموطئ قدم لمن يخونون الأمانة ويفرطون بها بإرتياح تام! السرقة أو الإختلاس والخطف والقتل وسائر أنواع الجرائم التي تبتلى بها البنية الاجتماعية هي من نوع السلوكيات التي تمارس ضمن منظومة قيمية واجتماعية تبررها وتشجع عليها من جانب فيما ينظر إليها بإعتبارها سلوكاً اجتماعياً مرفوضاً ومستهجناً من جانب آخر إعتماداً على الزاوية التي يتخذها هذا الطرف أو ذاك. لا تختفي السرقة أو الإختلاس وغيرهما من التجاوزات على الحضيرة الاجتماعية بنيوياً إذا ما إكتفى المجتمع بالإقتصاص من القائمين بها فردياً ولكن الإقتصاص الفردي والإستهداف الشخصي يبعث على الشعور بالراحة والتشفي اللازم من وجهة نظر الضحايا كأفراد. 

ويكتسب الإسم أو الإستهداف الشخصي للفرد المعني والمتورط في قضية ذات مساس بالصالح العام في الحالة العراقية أهمية كبيرة ليس فقط لتسكين قلوب ملتاعة وضمائر مستشاطة فقط وإنّما لتسليط الضوء على أبعاد الكارثة وأدواتها المباشرة. فقد بلغت التجاوزات حداً وإستشرت حتى صار من الصعب حصرها مما يجعل من الإسم دالة وبخاصة إذا كان الإسم لشخصية تتحمل مسؤولية قانونية وسياسية وأخلاقية تجاه المجتمع الذي إئتمنها على الواجب والمهمة. لا بد من وضع مبضع الجراح على الورم الخبيث بالنهاية ليتسنى له البدء بأولى خطوات العلاج بالإستئصال في بلاد صارت فيها الوزارة والمؤسسة وحتى الجامعة والمدرسة وسطاً خصباً للمتجاوزين والمخالفين والمستهينين بالرأي العام وبخاصة لمن يتوسم المناصب العليا والكبيرة فيها إلى درجة ساهمت بفقدان الثقة وحتى إنهيارها على المستويين الشعبي والرسمي. برزت أسماء كثيرة للأسف اليوم ليس لتصبح سارية وعلم وموضع إعتزاز وتقدير وإنّما ليشار إليها بإعتبارها عنوان المشكلة وأس الخراب. بالتأكيد نحن أمام كارثة حقيقية يلزم لمعالجتها إحداث ثورة إدارية وقانونية واسعة ومؤثرة للتعامل مع الأشخاص بالإسم ومن خلالهم بالقضية كقضية. هناك علاقة عضوية بين الإثنين: الإسم والقضية. فالأول الأداة والثاني المحيط أو البنية مما يتطلب التدخل لمعالجة الإشكالات التي يساهمان بصنعها بصورة تزامنية ومشتركة وإنْ كان أمر الفصل بينهما ممكناً في ظل ظروف الإستقرار والسيطرة على الأوضاع العامة أمنياً وقانونياً إنّما ماذا لو لم يكن الوضع كذلك!. 

وهناك جانب آخر للموضوع لا يقل أهمية عما تقدم وهو الذي يرتبط بجيش من أصحاب الأسماء الأقل شهرة ممن يمارسون أدواراً حيوية بحكم مواقعهم الوظيفية التي تمكنهم من تنفيذ الخطط والبرامج الهدامة مع إطلاق أياديهم للإستحواذ على "ما ملكت أيمانهم" من أموال وتفويض صلاحيات. يمكن تأشير عدد قليل من الأشخاص من رؤساء الكتل أو الأحزاب أو المؤسسات الحكومية ممن يرتكبون مخالفات مصيرية أو يحمّلون مسؤولية إستشراء الفساد في دوائرهم ومؤسساتهم  كما في السيد "مدحت المحمود" رئيس مجلس القضاء الأعلى أو "علاء الموسوي" رئيس ديوان الوقف الشيعي أو "سليم الجبوري" رئيس مجلس النواب وغيرهم.

 ولكن ماذا عن جيش الداعمين لهم والمستفيدين منهم ممن يؤدون أدواراً لوجستية مهمة لتنفيذ أوامرهم وتعليماتهم. أضف إلى ذلك طوق آخر من المتورطين والمساهمين بالقوة بحكم الوظيفة والراتب والسكن ممن لا يملكون من أمرهم شيئاً ويؤدون أدواراً مهمة لضمان تسيير عمل البنية اللازمة للنظام. برزت هذه القضية بأوضح صورها عند سقوط النظام السياسي السابق عام 2003 حيث صدرت قوانين "إجتثاث البعث" ومن ثم "المساءلة والعدالة" التي شملت أعداداً كبيرة بلغت الآلاف من الأشخاص الذين طردوا من وظائفهم وحرموا من رواتبهم بما في ذلك رواتبهم التقاعدية هكذا على حين غرة بسبب الوظيفة التي كانوا يشغلونها والمستوى الحزبي الذي يحملونه علماً بأنّ النظام في حينها ربط بين الوظيفة والإنتساب إلى الحزب ومضى إلى حد أنْ إعتبر العقوبة التي يتلقاها الفرد حزبياً تندرج على الفور على الوظيفة التي يقوم بها.  


أمام إختلاط المشاعر ونشاط وسائل الإطلاع والبحث عن الحقيقة من خلال الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي والقدر العالي من حرية التبادل يبدو أنّ المجتمع العراقي سيبقى حبيس هذه الثنائية الإشكالية المتمثلة بالإسم والقضية. تهتم الكثير من الشرائح الاجتماعية بإسمها وتبذل جهوداً لإبرازه وتأكيد حضوره كما في العلماء والمفكرين وعموم المثقفين من فنانين وأدباء وإعلاميين وصحفيين وكتّاب وأكاديميين وغيرهم بل وحتى سياسيين إلا إنّ هناك فرقاً بين من يتباهى بإسمه ليزداد مجداً وتألقاً وبهاءً من خلال العمل وتحسين مستوى الأداء وبين من يريد لإسمه أو إسمها أنْ يبقى نظيفاً في وقت لم يدخر فيه ما يكفي من الجهد للمحافظة عليه وترسيخه ليس بسبب الهجمات الإعلامية التي يتعرض لها كما يدّعى في الغالب وإنّما من خلال الإجراءات والتصرفات والتصريحات المعلنة والموثقة والمطلع عليها من قبل المتورطين بها. لا يقوى أحد أو جهة صحفية أو سياسية من أي نوع كان على النيل من أحد هكذا بلا مبرر. وإنْ حصل أنْ تشوهت سمعة أحد أو نالها ما نالها من الإساءة يمكن له أو لها معالجة ذلك ليس بالتهديد والوعيد وتنفيذ ذلك حيثما أمكن ليضيع حق المعني بالقضية وإنّما بالمكاشفة والشفافية والوضوح لقطع الطريق على المتربصين والمتصيدين بالماء العكر.

 أما أنْ يحدث العكس فتلك مسألة أخرى. ستبقى الطريق طويلة أمامنا من أجل المساهمة في إعادة بناء بلاد تخلو من الفساد والفاسدين وتتحرر فيها من بنية تغذّي الفساد وتديمه أياً كان إسم القائمين عليها أو شكلهم. قد يحصل هذا عندما نهتم أكثر بتطوير المعايير المهنية التي يتقن فيها الموظف العراقي والمواطن العراقي أنّ الفصل بين الخاص والعام يرقى إلى مستوى القدسية إلى جانب ضبط المؤسسات الحكومية وغير الحكومية من أجل ألا تتشاطر على أنظمة الجودة لتفرغها من مضمونها عن طريق التحايل عليها. فقد أوجدت هذه الأنظمة أصلاً لمعالجة الترهل والفساد ومعالجة حالات الغش والتلاعب.

 وهذا ما يجعل مهمة القائمين على تطبيقها ومتابعتها ترقى إلى مستوى قضية شرف إبتداءً من اختيار الأشخاص النزيهين والمؤتمنين عليها ومروراً بالمتابعين لأسلوب توثيقها ومراقبتها ورصدها لإتخاذ ما يلزم لمعالجتها في حينه وليس من خلال أسلوب تجميع الأخطاء والتستر عليها لإستخدامها حين الحاجة كما يحدث في الغالب.

AM:03:45:15/07/2017