لكمات ترمب على رأس الـ "CNN"
ممدوح المهيني


محقون من انتقدوا الرئيس الأميركي ترمب بعد نشره تغريدة وهو يوجه لكمات لمحطة السي أن أن. يبررون: "ما فعله الرئيس سلوك غير رئاسي ولا يليق بالساسة ولا المسؤولين، فكيف بزعيم الأمة الأقوى في العالم؟". وجهة نظر صائبة على الرغم من كل الأذى وحملات التشويه التي تعرض لها من قبل المحطة ووسائل إعلام أخرى تسعى بشكل صريح لإسقاطه بأسرع وقت، إما عبر فضحه وطرده من البيت الأبيض بسبب مساندة روسية مزعومة أسهمت بفوزه، أو إدمائه حتى يصل في الانتخابات القادمة وهو فريسة منهكة تنزف يسهل على خصمه الديمقراطي الإجهاز عليه.

لكن هذا الرأي يعاني من مشكلة واحدة عندما يصنف الرئيس ترمب بالمقاييس العادية المتعارف عليها، ويحكم عليه من خلالها. لكن ترمب لم يكن شخصاً تقليدياً قبل البيت الأبيض ولا رئيساً بعده ولا يبدو أنه سيكون. وعلى الرغم من أنه حاول -بغير رغبة منه - أن يستلطف الإعلام عندما قام بزيارة صحيفة النيويورك تايمز بعد انتصاره وأثنى عليها، إلا أنها انقلبت عليه سريعاً، ووجه كتّابها مقالات عنيفة بحقه، وانقض بدوره عليها عبر حسابه في تويتر ووصفها بالصحيفة المحتضرة. من يريدون أن يصالح ترمب الصحافة الأميركية أو العكس يفشلون في رؤية الصورة كاملة. الطرفان رابحان. الصحافة لا تريد بالأساس مصالحته. أيديولوجيا ضده ونخبتها تشمئز منه، وأخباره تزيد مبيعاتها، وهو من جهته يستفزها حتى يجيش قاعدته الانتخابية ويظهر بصورة المحارب من النخبة الفاسدة حتى تطيل مدة إقامته في البيت الأبيض في الانتخابات القادمة.

ترمب شخص ورئيس غير مقولب، ولا يمكن أن نلقى شبيهاً له، لا في الماضي ولا في الحاضر. ولكن ربما هذا ما نحتاجه، حيث تؤكد بعض النظريات التاريخية أن الرؤساء غير المتوقعين وغير التقليديين هم الأفضل والأنسب للقيادة في وقت الأزمات والصراعات الكبيرة، وهذا ما يعبر عن واقعنا الحالي. في الكتاب الهام "جنون من الطراز الرفيع" للمؤلف ناصر قائمي وترجمة يوسف الصمعان، يؤكد على هذه الفكرة التي تشير إلى أن الزعماء غير التقليديين ومن يعانون من جنون من الطراز الرفيع يتفوقون في أوقات الحروب، ويفشلون في أوقات السلم.

في الأوقات المضطربة تحتاج إلى شخصيات ترى من زاوية مختلفة، وتدير الأمور بطريقة مبتكرة، لأن الأزمات ذاتها غير متوقعة، ولكن هذه الشخصيات تفشل عندما تستقر الأمور وتعود لطبيعتها. الشخصيات العادية تعاني من وهم إيجابي متوسط المستوى، ولهذا السبب نبالغ بمستوى ذكائنا، ونرى أشكالنا أجمل في المرايا مما هي عليه في الواقع، وننفخ في قدراتنا في السيطرة على شؤون حياتنا.

كل ذلك أمر جيد، بحسب ما يقول قائمي إلا حينما تقع الأزمة تنكشف قدراتنا ونفشل بشكل واضح في إدارتها. هذا على العكس من الشخصيات غير الاعتيادية التي لديها مسحة من الجنون أو الغرابة تزدهر في وقت الأزمات العاصفة، لأنها تنظر بواقعية للأحداث، وتفكر بطريقة معقدة ومتكاملة بذات الوقت، وتنظر للأشياء من زوايا مختلفة لا يراها الآخرون، وهذا ما يفسر سر عبقريتها التي نحتار في تفسيرها.

العديد من الشخصيات ذكرها الكتاب لإثبات نظريته. الرئيس الأميركي فرانكلين روزفلت الذي حكم لثلاث فترات وكان يعاني من مرض شلل الأطفال الذي أذله لم يكن رئيساً تقليدياً. كان يعاني من فرط المزاج، ما منحه شهية كبيرة للحياة، وحباً كبيراً للسياسة. يتحدث لوقت طويل، ما جعل مساعديه يبتكرون طرقاً لإسكاته، ولديه شغف كبير لمعرفة كل شيء تقريباً، ولديه حب كبير للتاريخ والجغرافيا.

يدير حكومته بطريقة غريبة، حيث يستمع للكثير من المستشارين والمقربين الذين يحيطون به، ويغير خططه سريعاً إذا ثبت فشلها. لديه فضائح مثل علاقاته النسائية السرية، ومغرم بمواجهة الصحافة وعقد مئات المؤتمرات. على العكس منه الرئيس لينكولن المصاب بالاكتئاب، وهذا ما أكسبه القدرة على الواقعية الذي جعله يغير جنرالاته وخططه في الحرب والتعاطف مع المستعبدين. لينكولن وعلى غير الصورة المثالية عنه كان سياسياً بارداً وواقعياً، وقام في أوقات من حكمه بمهاجمة فكرة الرق كفكرة خاطئة من أجل تقويضها من دون أن يهاجم ملاك العبيد حتى لا يثير غضبهم. تشرتشل أيضاً شخصية عانت من الاكتئاب، وفكر بالانتحار، وهو الوحيد الذي تنبأ بخطر النازية وهتلر قبل الجميع، واستطاع في النهاية أن يهزمه. مسحة الجنون والغرابة في عقل تشرتشل منحته قدرة خاصة على رؤية ما لم يره الآخرون، ومن بينهم رئيس الوزراء تشامبرلين الذي تمتع بعقل صحي ونفسية مستقرة وحياة ناجحة ساعدته في وقت السلم وخذلته في وقت الحرب حينما حاول استرضاء هتلر، وعقد اتفاقية سلام معه لطخت سيرته بالعار للأبد. المهاتما غاندي ومارتن لوثر كنج عانيا من الاكتئاب، وفي صغرهما حاولا الانتحار.

سلوك غير طبيعي ولكنه يعكس شخصيات مختلفة استطاعت بعد ذلك أن تحدث تغيراً كبيراً في العالم مع بروز حركات اللاعنف. في مقابل هذه الشخصيات هناك شخصيات مثل الرئيس جورج بوش الابن وتوني بلير، شخصيات ناجحة واجتماعية ولكن لا تفكر على الطريقة المتكاملة المعقدة، لذا تصر على مواقفها ولا تغير استراتيجيتها حتى بعد أن تبين خطأها. وتتوقع أن يضع الكاتب الرئيس نيسكون بقائمة الرؤساء غريبي الأطوار الذين غيروا مسار التاريخ بعد أن عقد صفقة تاريخية مع الصين دمجها في النظام الدولي، أو الرئيس ريغان الذي نفخ الروح في الرأسمالية، ولعب دوراً كبيراً بسقوط الاتحاد السوفيتي، إلا أن الكاتب يصنفهما بالزعماء من الأغلبية العادية.

بعض المحللين نقضوا بعض هذه الأفكار ولا تبدو في بعض الأحيان منطقية، إلا أن الفكرة الرئيسية تظل متماسكة ومثيرة للاهتمام. وتزداد إثارتها للاهتمام أكثر إذا طبقناها على الرئيس أوباما الذي يتمتع بالجاذبية والشخصية المثقفة والهادئة، والذي يصعب انتقاد سلوكه الشخصي، ولا نعرف أخباراً عن فضائحه وعشيقاته. سليم العقل والبدن، ولكنه فشل بشكل ذريع في العراق، وترك السوريين يذبحون لسنوات، وعقد صفقة مخجلة مع النظام الإيراني. هذا على العكس من ترمب الصادم والغريب الأطوار، ولكنه شخص مختلف، وربما يعاني من فرط المزاج استطاعت إدارته خلال 6 شهور فقط أن تحقق إنجازات واضحة، أبرزها ضرب مطار الشعيرات، واتخاذ الموقف الصحيح من إيران وكوريا الشمالية.

لكمة ترمب لسي أن أن مثيرة للغرابة، ولكن الأهم هو السياسات على أرض الواقع، وكم رأينا من شخصيات أنيقة في منتهى العقلانية ولا يتفوهون إلا بكلام منمق ومدروس ولا يتخذون قراراً إلا بعد دراسة وتمحيص، إلا أنها تفتقد للعقل الغريب والمختلف أو حتى الكئيب والمهووس الذي نحتاجه ليخرجنا من الأزمات الخانقة.


العربية

AM:03:54:15/07/2017