نظرية «الثعلب والقنفذ» فى الإعلام الفضائى!
وفاء محمود



البدء بالكلمة أساس كل إصلاح، فالكلمة هى المعني، هى وعاء الفكر، وتلخص سياق الأحداث، وتبلور الأهداف، وتضع الخطوات العملية على أرض الواقع، بلا لبس ولا تضليل، ففى البدء كانت الكلمة، هى أمر الله، بكن فيكون.

أعتقد أن جوهر أزمتنا الحضارية هو «الكلمة» ففيها يرقد العقل الشعرى الخيالي، الذى يوهمنا بصحة أفكارنا غير الواقعية، وقوة إمكانياتنا غير الفاعلة، وبالكلمة أيضا تشكلت أيديولوجيات، نعيش ونموت من أجلها، وتسلمها أجيال إلى أجيال، دون أن تعرض على تشريح معرفي، لخلق آلية تطبيقاتها، وفق مقتضيات القوة والحق، أو إعادة هيكلة الأفكار لخلق بدائل تتفق مع القوة وتؤتى ثمارا للحق.

المأزق المعرفى الذى يعيشه العالم العربى ــ كما أتصور ــ يدور حول الكلمة، حاملة الفكرة، والصراع داخلى فى الأساس، فمساحة طرح الكلمات أى الأفكار أصبحت واسعة بشكل لم يسبق له مثيل، فضاعت أوزان الكلمات فى وسط الضوضاء، واستخدام كلمات من كافة الشرائح الاجتماعية تعبر عن سياقات اجتماعية، تعانى ضعفا مركبا فى الرزق والتعليم والتربية، وأصبحت الكلمات وعاء للتمرد والتنفيس واللامبالاة، ويظهر بوضوح فى لغة الشارع التى انتعشت وانتقلت لوسائل الاتصال الاجتماعي، وتنضح بها الفضائيات، فضاعت قداسة الكلمة التى كانت لها من قبل! بفضل المسئولية الاجتماعية وأيضا الأخلاقية قبل كل شيء!.

عندما تنضبط الكلمة فى هذه القنوات التعبيرية المفتوحة، سينشأ معها أمل المعافاة من الشوشرة الفكرية والنفسية، فعندما كان يستمع العامة لأغانى (أم كلثوم) ويطربون بشعرها الذى تلقيه بقداسة ورهبة لمعانى الكلمات، التى تعطرت بها عقولنا، كان ذلك تعبيرا عن سلامة المجتمع، فجمهور سيدة سيدات العرب، ما هو إلا دليل على درجة مرتفعة من الرقى الاجتماعي، الذى كان له روافعه السياسية والاقتصادية والثقافية، ولم ينشأ من فوضي! ولكن من نظام!.. وسواء كان النظام ملكيا أو جمهوريا من بعده، إلا أنه اتخذ صورة «النظام» الذى تنشأ عليه كل مظاهر النمو والرقى الاجتماعي!.

الانتشار الواسع للقنوات الفضائية والمواقع الإلكترونية سمح بالتلاعب بالألفاظ، إما لتحقيق أهداف سياسية، كما هو معروف لإسقاط أنظمة سياسية، وإما لجذب المشاهدين بالتميز السلبي، بالخروج عن القواعد والضوابط الحاكمة للكلمة، لا للإبداع فى جذب الناس لمنفعة جمالية أو معرفية، وأصبح النفور والابتذال «سلعة» سواء بالشكل، أو الصوت، أو الكلمات الإباحية، أو إهانة الرموز الحالية أو التاريخية، بلا توثيق، لمجرد إثارة الدهشة ولفت الأنظار حتى ولو بالقبح، فأصبح للقباحة سوق، ولكنه أوشك أن يبور كلما استردت الدولة النظام، واطمأن الناس على حياتهم وأمنهم ستتشكل إرادة جماعية تلقائية لتطبيق نظرية «الثعلب والقنفذ».

وهى نظرية شهيرة اخترعها عالم الاجتماع البريطانى (أشعيا برلين) بناء على مقولة يونانية قديمة للشاعر الإغريقى (أرخيلوخوس)، أن الثعلب يعرف أشياء كثيرة، ولكن القنفذ يعرف شيئا واحدا، فالثعلب لديه القدرة على التغير والابتكار والمكر، للوصول إلى أهدافه، بما فيها، تصنع الموت، بينما القنفذ لا يملك إلا حيلة واحدة، يتخندق فيها إلا أنها ناجحة فى حمايته، وقام الفيلسوف البريطانى بتوسيع الفكرة وتطبيقها على المفكرين والفلاسفة على مر التاريخ، وإبراز القيم التى دعوا إليها من منظور تاريخي، والأسباب التى جعلت بعضهم متغيرا متلونا أو حتى سطحيا كالثعلب، وآخرون يأخذون منحى واحدا يتمسكون به، ويتوسعون فى شرحه بعمق وإظهار تداعياته الإنسانية وكان الكاتب الروسى ( تولستوى) من القلائل الذين جمعوا ما بين الثعلب والقنفذ الذى جمع بين العمق والتنوع، أما شعبنا الصابر فلديه الخبرة الآن للتمييز بين كليهما.

وتطبق نظرية الثعلب والقنفذ على أشكال وتطبيقات متنوعة، فيشير الثعلب كذلك إلى السطحية والانتهازية اللا أخلاقية، وكذلك القنفذ قد يشير إلى الجمود وعدم الفعالية، عندما يتمكن خصمه من اكتشاف نقاط الضعف فيه، ويتمكن منه بعيدا عن أشواكه الدفاعية، فإذا تم التوسع فى هذه النظرية لتطبيقها على المناخ الحاكم للإعلام، نجد أنه ما بين الثعالب والقنافذ بالمعنى السلبي، فالثعالب المتلونة السطحية، تقوم بأدوار متلونة حسب مصالحها خاصة أن الإعلام أصبح وسيلة حربية، للعب بالكلمات فتزف إلينا الكلمات الكبرى بلا سياق لا اجتماعى ولا ثقافى ولا أخلاقى للتلاعب بالأفكار، ونشر الإحساس بالظلم غير المبرر، وافتقاد لمعان شعرية لا توجد إلا فى الخيال، ولا تطبق مطلقة فى أى مكان، كمعانى الحرية والشرعية والعدالة وغير ذلك من كلمات، يرددها ثعالب الإعلام المأجور فى قطر وتركيا، وهم يعلمون ذلك ولكنهم ارتضوا بيع ضمائرهم ببيع كلماتهم، ولكن المخزى أن يتم بعض من ذلك فى الإعلام الوطنى وأن يخصص للثعالب المتلونة إمكانات فضائية ليلهوا بنا، وليعاير الدولة بتفضله عليها بعدم الانضمام للإخوان! كأن ذلك خيار يقبله ضميره الثعلبي، أن ينتقل من النقيض إلى النقيض، بلا قضية إلا المصالح الشخصية! وعندما نرى ذلك فلا يسعنا إلا الدعوة إلى تطوير الإعلام الرسمى الذى تقنفذ على وسائل وأدوات ركيكة بالية، ولكن ــ وهذا هو المهم ــ يؤمن بنزاهة قضية بلاده، لدرء الخطر الأكبر عنها وكشف مكمن الشر الجالب لعداء العالم شرقه وغربه، فعلى القنفذ أن يتثعلب قليلا فى الشكل ليرحم الشعب من ثعالب بلا قضية!


AM:04:05:20/03/2018