يوم حُجِب الانترنت عن العراق!
د. لؤي الخطيب*

لم تَعُد الانترنت خدمة كمالية في هذا العصر بل ضرورة حياتية يعتمدها البشر في طلب الرزق وإدارة الشؤون اليومية بما فيها التواصل بين الناس وأداء الاعمال، لذا يُعَدّ قطعها كقطع الأعناق قبل تكميم الأفواه، وحجب خدماتها من أولى مؤشرات تقييد الحريات وتردي أوضاع الدول حسب التقارير العالمية. 

منذ انهيار النظام الدكتاتوري في العراق عام ٢٠٠٣ على أيدي قوات التحالف الانكلواميركي وحتى هذه اللحظة، لا يكاد يمر صيف عراقي قائض الا ودفع بالشعب في اغلب المحافظات العراقية، وخصوصا الجنوبية منه، للتظاهر ضد الحكومات المحلية والمركزية بسبب غياب الخدمات وتفاقم الفساد وسوء الادارة، ثم تقوم السلطات الحكومية باحتواء الموقف من خلال تشكيل خلية أزمة والاستجابة لبعض مطالب المتظاهرين بحلولٍ ترقيعية الى حين تحسن الطقس في الخريف لتبرد حرارة المحتجين، وهكذا دواليك في كل عام، إلا أن حجب خدمة الانترنت بحجج أمنية قد زاد الطين بَلّه وسيزيد من حجم المطالب الشعبية وتفاقم الأزمة من سيئ الى أسوأ. 

بعد مرور خمسة عشر عاماً من الانفلات الأمني وتراجع في الخدمات والمستوى الصحي والتعليمي في ظل تفاقم الفساد وسوء الادارة وهدر ترليون دولار من واردات العراق دون شواهد تُذكر لمعالم دولة عصرية، أصبح المواطن يتساءل لماذا هذا التردي و البؤس في المعيشة والتخلف في الحكم؟ وهل الطقس في دول الخليج العربي على سبيل المثال بأفضل حالٍ من العراق لينعموا بحياة الرفاه؟ علماً أن بلدانهم صحراء قاحلة تخلو من الأنهار ومقومات الزراعة في حين أن احتياطيات العراق النفطية قد تتجاوز بعض احتياطيات أعضاء مجلس التعاون الخليجي كما أن انتاج النفط العراقي هو الثاني بعد السعودية في سلم انتاج دول منظمة اوبك. إنها لمفارقة أن ينتهي حال أرض السواد وبلاد الرافدين باعتمادها على بلدان صحراوية في استيراد جميع لوازم العيش منها بما فيها التمور والألبان والمياه والمشتقات النفطية.

بالرغم من صبر المواطن على وعود المسؤولين خلال جميع الإدارات التي تعاقبت على الحكم، إلا أن حالة التذمر الشعبي وصلت الى مراحل لا تطاق مما قاد عامة الشعب من شمالي البلاد الى جنوبها في اقتحام المقار الحكومية في عام ٢٠١٦ ومن ثم التعدي على المنشآت النفطية والمطارات ومراكز الأحزاب الحاكمة وصولاً الى عام ٢٠١٨، حيث جابهتها بعض الجهات الحكومية باتهام الحراك الجماهيري على انه مدفوع من جهات خارجية مندسة.

لا يوجد عاقل يؤيد أعمال العنف والتخريب التي طالت بعض المؤسسات خلال التظاهرات، لكن في نفس الوقت يجب أن لا يكون الناقد للانفلات الأمني ولياً على مشاعر الناس واتهامها على أنها مدفوعة بأيادٍ مشبوهة، هذا مع احتمال تربص الجهات المعادية للعراق لاستثمار اي فرصة مؤاتية والتدخل في شؤون البلاد او اندساس افراد الاحزاب الفاسدة في جموع المظاهرات لحرف مسارها وسلب الشرعية منها. 

إن تفاقم حالة البؤس وضنك العيش وانعدام الكفاءة وغياب العدالة الاجتماعية وفساد وفشل الطبقة السياسية الحاكمة التي تعيش في أبراجها العاجية بعيداً عن معاناة الناس وهمومها، مع كل مؤشرات التراجع الديمقراطي في تزوير الانتخابات العامة وتردي الحالة الأمنية لا تحتاج الى "اي تدخل خارجي" يدفع الناس بالخروج الى الشوارع والمطالبة بحقوقهم المنهوبة في حالة جنونية تفقدهم صوابهم كردة فعل على ديمومة الاستهتار السلطوي الذي تجاوز عقداً ونصف من عملية سياسية مبنية على الفئوية وحكم الإقطاعيات الحزبية والمحسوبية العائلية التي قادت الى حالة اللادولة.

لا أريد أن أكون متشائماً فالأوضاع تسير الى ما لا تُحمد عقباها، لكن إن كان ثمة نصيحة للطبقة السياسية الحاكمة لاحتواء الأزمة وتصحيح المسار الديمقراطي لبناء دولة محترمة، انصح بالاتي:
أولاً: احياء خدمة الانترنت مع تحسين اداء شبكة الاتصالات دون العودة الى قطعها، والسماح للمتظاهرين بممارسة حقهم الدستوري في التعبير عن الرأي ومطالبة حقوقهم دون اتهام نواياهم، مع تنبيه المواطنين على أن المساس بالمنشآت العامة والخاصة خط أحمر كونها ملك للمواطن، وإن الحكومة ملتزمة بمنع ومحاسبة من يعتدي عليها بالقانون حماية لأمن البلاد وحقوق الشعب. 

ثانياً: تشكيل خلية عمل مهنية بصلاحيات تنفيذية لتوفير الماء والكهرباء والدواء لجميع العراقيين (بأسعار مدعومة) خلال كل موسم صيف حتى إعادة إعمار البنى التحتية في جميع أنحاء البلاد.

ثالثاً: تشكيل حكومة طوارئ مهنية وكفوءة ونزيهة تأخد على عاتقها مسؤولية توفير الخدمات السريعة، والعمل على إعادة الانتخابات العامة باشراف الامم المتحدة وإدارة حكومية لا تشترك في سباقها خلال فترة لا تتجاوز عشرة أشهر خصوصاً أن الانتخابات الاخيرة قد شابها الكثير من محاولات التزوير الفاضحة والتشكيك في الآليات بعد امتناع أكثر من نصف الشعب العراقي من المشاركة فيها بسبب انعدام ثقة الشعب بالعملية السياسية وفرسانها.

رابعاً: الالتزام بالدستور الاتحادي وتطبيق الفيدرالية باعتماد اللامركزية وعدم حصر الصلاحيات بيد الحكومة الاتحادية مع تفعيل القضاء ضد كل من تثبت إدانته مهما كان منصبه في الدولة أو موقعه في العملية السياسية.

خامساً: فتح جميع الطرق المغلقة وإزالة سواتر المربعات الأمنية والمنطقة الخضراء في العاصمة بغداد وما شاكلها في محافظات العراق كافة لفك الاختناقات، مع زيادة الجهد الاستخباراتي واعتماد التكنولوجيا الحديثة وبث البرامج التثقيفية كبديل عن الأسوار ومظاهر العسكرة لبسط الامن واستددباب السلم الأهلي.
 
سادساً: إنهاء الطبقية الاجتماعية بإلغاء الباجات الخاصة و سحب جميع أفواج الحماية الشخصية للمسؤولين وتقليلها لأفراد معدودة، وخفض عدد المركبات في المواكب الرسمية الى ثلاث أو أربع عجلات كحد أقصى لأرفع مسؤول في الدولة مع محاسبة كل فرد يتبجح بمظاهر السلاح وقطع الطرق من خلال حصر السلاح بيد الدولة.
سابعاً: تسليم جميع المقار الحزبية المملوكة للدولة وتلك المستأجرة بعقود رمزية، خلال فترة لا تتجاوز ثلاثين يوماً.

ثامناً: مراجعة سلم الرواتب والمخصصات الى حدود معقولة بمعنى أن لا يتجاوز راتب ارفع مسؤول في الدولة مرتب ومخصصات الاستاذ الجامعي، مع إلغاء تعدد الرواتب للمسؤولين والمشمولين بقوانين التعويضات والضرر السياسي (قبل وبعد ٢٠٠٣).

تاسعاً: استحداث مراكز تدريب مهنية بمعايير عالمية لتوفير التدريب المجاني والتأهيل المهني لكل من يرغب بتطوير مهاراته الفنية بشرط الالتزام بالبرنامج التدريبي، ومساعدة المنتسبين لهذه البرامج في البحث عن فرص العمل في القطاعات الخاصة والعامة والمختلطة. 

عاشراً: مراجعة الحالة الاجتماعية للعوائل الفقيرة وذات الدخل المحدود وتكون الأولوية للارامل والمطلقات وأصحاب الاحتياجات الخاصة والتكفل بأحوالهم المعيشية من خلال صندوق خاص.
إن ما ورد اعلاه ليس طلباً لمكاسب بل انعاشاً لأبجديات الحياة والحقوق المتوقعة من أي حكومة تدعي التزامها أبسط النظم الديمقراطية واحترام الإنسان.

اعتماد هذه الخطوات قد تكون كفيلة في امتصاص النقمة الشعبية وبيان حسن النية للطبقة السياسية الحاكمة لإصلاح الأمور، أما التسويف والإهمال والتفضل والتكرم في تقديم الواجبات مع استمرار أساليب قطع التواصل بين الناس وغيرها من سياسات عقيمة، ستدفع الى تدهور الأمور بوتيرة متسارعة انتهاءً بانهيار ما تَبقّى من دولة اسمها العراق.

almadapaper

AM:02:12:18/07/2018