خروج من منظومة الطاعة والنسقية التاريخية لجمهور يستعيد وعيه
د. حيدر نزار السيد سلمان

تبدو علامات الصدمة عند القوى السياسية واضحة، سواء في الأساليب التي اعتمدتها الحكومة لإيقاف حركة الاحتجاجات الشعبية ومنع تمددها أو من خلال الخطاب الموجه من الفئة الحاكمة المثير بتخبطه واستعاراته العدائية، وكذا الحال من الوجوم والصمت والحيرة التي ظهرت على هذه الفئة . ولم يعد خافيا الهلع والخوف المصاحب للصدمة اللذين أصابا الحكومة وأركانها وتبديا في استجابات هزيلة ومراوغة لاحتواء تصاعد الغضب الشعبي وعدم تعكير مزاج المحتجين ليتصاعد غضبهم وتزداد أعدادهم بالتحاق متعاطفين جدد بهم، وهو ما حصل. 

خلال خمسة عشر عاماً بذلت الأحزاب الحاكمة، وخصوصاً الشيعية منها، أقصى درجات الصهر والترويج الدعائي والإعلامي لإخضاع جمهورها وفرض هيمنتها عليه بأساليب مخاتلة تستجلب من العقيدة الدينية آلياتها وجاذبيتها هادفة لتشكيل رأي عام مطيع ومتوافق مع رؤيتها وسلوكياتها وأدبياتها الحزبية المازجة بين الدين والسياسة كطريق معبد للطاعة المطلوبة. وشكلت السرديات العقائدية والقرب الثقافي والمكاني لقادة هذه الأحزاب القدرة في تحقيق الهيمنة والإخضاع النفسي الثقافي ومن ثم تشكيل نسق اجتماعي مطيع لطروحات الأحزاب الحاكمة وأيديولوجيتها المستندة على التلاعب بالمشاعر الطائفية وتغذيتها بممارسات مفتعلة وإغراق الجمهور بالشعارات التجهيلية المخادعة ونشر الخوف من أعداء واقعيين ومحتملين، تم تسخير الخوف التاريخي لبلوغ أعلى درجات القيادة والطاعة بوصف القادة الحكام على أنهم ممثلون حقيقيون وتاريخيون منصفون للجمهور الذي لابد أن يبرهن على اندكاكه بالأحزاب وخضوعه لها، والتي مافتئت تتجاوز الوقائع الحقيقية لتضخ دعايتها؛ كونها مخلصة لهذا الجمهور من الحكم الديكتاتوري بتضحياتها.

بالفعل استجاب الجمهور للإغراءات الخطابية ذات الصدى المؤثر بوصفها تداعب الخيال العاطفي وتتناغم مع التاريخ الشعبي، وباتت الطقوس والاحتفالات الدينية وسيلة لفرض الهيمنة النفسية والسيطرة على الحركة الجماعية لجمهور يستند على ذاكرة تاريخية مليئة بالتهميش والظلم الاجتماعيين، ومدة انتظار طويلة للخلاص من أوضاعه الرثة البائسة (حقوق سياسية، معيشة، حقوق دينية وحق ممارسة شعائره، حق التعبير وغيرها)، بيد أن آماله بالخلاص والتغيير وإصلاح أوضاعه الحياتية والحقوقية على رغم من التعهدات السخية والوعود الغزيرة بانتقال من حال متدنية بكل شيء إلى نظام العدالة الاجتماعية والمساواة ودولة المؤسسات التي تعتمد الكفاءة والخبرة مع خدمات متكاملة توفر حياة سعيدة، لم تتحقق، اذم لم يتحقق شيء من الوعود بل تراجعت أسباب الحياة حتى عن مستوى بؤسها القديم وحل نظام الامتيازات والاقطاعيات الجديدة لأفراد السلطة وعوائلهم وأحزابهم، ومنحت المكافآت والرواتب بعبثية غاية في الغرابة بموجب قوانين مجحفة وعجيبة، وأهملت مطالب الحالمين بفرص العمل والمشاريع التنموية وتوفير السكن والمدن الحديثة بمشافيها ومدارسها وشوارعها وحدائقها، بل الأشد قهراً إن القديم من البنى التحتية للبلاد أصابها الضرر والتهالك والاندثار دون أن تستدام أو تستبدل بأخرى جديدة رغم الزيادة في السكان والتطورات الحياتية، وبذلك تحولت فلسفة الحكم ورؤيته إلى مجتمع استهلاكي بعد أن اندثرت الصناعات التي كانت على قلتها تسد جزءاً من الحاجة، وتراجعت الزراعة رغم ما عرف بالمبادرة الزراعية التي تراجع فيها الإنتاج الزراعي بدل ازدهاره لأسباب منها ضياع الأموال المخصصة ضمن المبادرة في درب الفساد المظلم، ولعل الفشل والاستغراق في الخطابات الديماغوجية والوعود كثيرة وكثيرة. 

وجد الناس أنفسهم بعد نوم طويل أن الوعود والتعهدات وآمالهم العريضة بدولة الرفاهية لم تك إلا كلمات مصفوفة وخطابات مخادعة لا أكثر، ولم يجدوا أمامهم بعد عقد ونصف من حكم مدّعي الإنقاذ والخلاص إلا البؤس والمدن العتيقة بشوارعها الترابية، ولم يحصدوا من كل آمالهم وتطلعاتهم سوى الكلام، وأمام كل سنوات التدجين وفرض شروط الطاعة بوساطة التلاعب الممنهج بالمشاعر الدينية والمناطقية وترسيخ الخوف والهلع عند الرأي العام من فقدان سلطة شيعة السلطة وعودة البعث وضرورة القبول بالمتسلطين كجدار صد ورمز للسلطة؛ استفاق الناس على كمية الاحتيال والخداع التي تمت تغذيتهم بها لسنين طويلة، واكتشفوا أساليب فرض الطاعة والرضوخ النفسي عبر إخضاع الوعي الجماعي لمنظومة غسل أدمغة وتشكيل رأي عام مستلب فاقد لقدرات التفكير الحر والقبول الشرطي بكل ما يريده المتسلطون دون اعتراض أو نقاش. 

ما يحصل الان عبر الحركات الاحتجاجية هو بداية استفاقة من الأحلام والتخلص من السيطرة النفسية المفروضة، إذ لم تعد أساليب القهر النفسي والتدجين فاعلة بعد كل هذا الحطام والفشل والتراجع.

المدى

AM:02:54:28/08/2018