هل للدبلوماسية والاعلام أم للاشاعة دورا في الحد من ألتوترات والصراعات المحلية والدولية؟*
جورج منصور

تعتبر الدبلوماسية هي الطريقة المثلى والصيغة الاكثر عقلانية وعملية للتعامل في مختلف الاوقات وفي اكثر 
المجالات، بما في ذلك ادارة اي حوار او تفاوض بين اشخاص منفردين او مجاميع او بين شعوب او دول معينة.
وهي من حيث المبدأ تشكل تراكما معرفيا وخبرة انسانية كبيرة جدا في العلاقات بين الدول من خلال 
اصحاب الحكمة والعقول الراجحة من بني البشر ، تصل الى مئات السنين قبل الميلاد.

وغالبا ما يجري الحديث عن الدبلوماسية التقليدية، باعتبارها الصيغة الانجع لادارة العلاقات الدولية من خلال هيئات ديبلوماسية وديبلوماسيين اكفاء.

أما الاشاعة، فهي عبارة عن صيغة منظمة لنشر واشاعة اخبار او معلومات ، سواء أكانت صحيحة أم كاذبة، هدفها الحصول على نتائج وردود افعال تتناسب مع الاهداف المرسومة لها.

لقد تم العمل باسلوب الشائعات ( الترويج ) منذ ازمان بعيدة، بيد ان تطور وسائل الاعلام الجماهيرية، المقروءة منها او المسموعة او المرئية، وتوسعها الهائل، جعل من السهولة جدا نشر الشائعات في اوساط جماهير واسعة من المتلقين سواء في داخل بلدان معينة او في خارجها، حتى اطلق البعض على الشائعة تسمية " الديبلوماسية الشعبية".

ان الثورة المعلوماتية في المجتمعات المفتوحة، وحتى المغلقة منها في الوقت الحاضر، اربكت بعض الحكومات فأصبح من الصعب جدا عليها، السيطرة على مصادر المعلومات وبالتالي الحوؤل دون وصولها الى المتلقي. حتى ان محاولاتها احيانا لتحريف الحقائق وتشويهها، بدأت تنكشف وتتدنى مصداقيتها لدى شعوبها والرأي العام المحلي والدولي، ولربما سيقودها هذا الى مصير لن تحسد عليه.

واذا كانت لغة الحرب هي التي سادت في فترات كثيرة، حتى في عصرنا الحديث، فأن لغة الدبلوماسية السياسية وحكمة الانسان هي التي يفترض ان تصبح لغة التعامل الدولي في مرحلة العولمة الراهنة حيث يعيش العالم كله في قرية بيوت سكانها اصبحت متجاورة جدا وثقافاتهم قابلة للتفاعل والتبادل والتعاطي السلمي مع الاحداث. كما يجب ان توظف الدبلوماسية ايضا من اجل بناء العلاقات السليمة وتحجيم الصراعات عبر ادراك طبيعة وحاجة البلدان الاخرى وثقافاتها وخصوصية شعوبها، وبالتالي البحث عن النقاط المشتركة لجهة خلق وشائج وعلاقات انسانية. اذ كلما تعززت هذه العلاقات، كلما احرزت الدبلوماسية الاهداف المرجوة منها.

وبغية الوصول الى تلك الاهداف، يتطلب من الدول والمؤسسات المعنية العمل على اتقان واحتراف فن العمل الدبلوماسي، والذي يعمل وفق ابعاد ثلاثة، هي: التواصل عبر الاحتكاك والتماس اليومي وخلق الانسجام والانسيابية بين العمل الدبلوماسي ودائرة الاخبار والمعلوماتية، وتكثيف الاتصالات الاستراتيجية، وخلق علاقات طويلة الامد مع شخصيات ووجوه سياسية وثقافية واجتماعية عبر تنظيم ورش للعمل المشترك وفتح الدورات اللازمة وعقد الندوات والمؤتمرات بالاستفادة من وسائل الاعلام في كل تلك المجالات.

ان الخبرة المتراكمة لدى الدول وكذلك الافراد تختلف من حيث العمل والتعامل الدبلوماسي مع مستوى التطور في علاقات الانتاج والمجتمع المدني والوعي الاجتماعي للفرد والمجتمع. كما انها ترتبط بشكل خاص بمدى تفاعل الشخصية الدبلوماسية، ليس مع مشكلات بلادها فحسب، بل مع مشكلات الاقليم والعالم.

ان طريقة مخاطبة الجماهير، هي من اهم اولويات اي اتصال مؤثر وناجح. فالذين يحاولون العمل في مجال الاشاعة والترويج ، يقومون بالتأثير على عقل المتلقي المستهدف ومواجهة الند بالتعرض الى ثقافته واشراك شرائح من المجتمع، محاولين بذلك اثبات مصداقيتهم وازالة الشكوك الحائمة حولهم.

و تلعب الاشاعة دورا في نشر الفوضى وحالة التشتت وتقوم بتأجيج سلوك الناس وتصعيد مواقفهم، بدلا عن جرهم الى لغة اكثر حضارية، الا وهي لغة الحوار الهادئ والمفتوح.

كما تشترك الاشاعة مع اسلوب الدعاية في الكثير من الامور، حتى يقال ان العملية الدعائية لاتتعدى كونها شائعة توظف لناتج تجاري.

اضافة الى ذلك، فان للاشاعة ابعادا سياسية حينما تستخدم اشكالا اخرى لتفشي المعلومات، كالمنشورات والملصقات والبث التلفزيوني والاذاعي وشبكات الانترنت. ويشار الى الاشاعة كونها مصدرا للنشر المتعمد لافكار مشوهة او ملتبسة لصالح اهداف سياسية تخدم في نهاية الامر مصالح معينة، عندما تجري محاولة تغييراراء الناس وطريقة تفكيرهم بخصوص موضوع او قضية ما لغرض تغيير ردود افعالهم ومواقفهم لتصب في نهاية الامر في خدمة اهداف مروجي الاشاعة انفسهم.

ولهذا تخدم الاشاعة الهدف المطلوب منها، ليس من خلال حشو ادمغة المتلقين بالافكار والمعلومات المراد استخدامها فحسب، بل من خلال تحييد مواقف الناس لجهة عدم الاعتراض او رفض الافكار والمفاهيم المروجة.

والاشاعة، حسب العالم البريطاني اف.ام. كورنفورد، هو ذلك الفن من فنون الكذب الذي يركز على تضليل الاصدقاء، دون ان يتحمل عناءا كبيرا لتضليل الاعداء.

وفي الوقت الذي استخدمت الشائعات كأدوات لاشعال التمردات وحالات الرفض والتعجيل من تأجيج النزاعات العدوانية في العالم، فان وسائل الاعلام الحيادية والتي تتمتع بنوع من الاستقلالية، تلعب دورا بالغ الاهمية في حياة بعض المجتمعات، من خلال نزع فتيل النزاعات العدائية وتبديلها بصراعات مدنية وحضارية. كما تلعب وسائل الاعلام التقليدية( الاذاعة والتلفزيون والصحافة) في الغالب دورا تثقيفيا وتعبويا في بعض المجتمعات. 

لقد ابدت دبلوماسية عصبة الامم في العشرينات والثلاثينات، ومن ثم الامم المتحدة ابتداء من عام 1945 قدرة على معالجة المشكلات المحلية والاقليمية والدولية، نتيجة ما تكدس لديها وحولها من معارف وخبرة وادوات واليات لمعالجة المشكلات الدولية الثنائية ام المتعددة الاطراف.

ولا تكمن الاهمية البالغة في الدبلوماسية في مواجهة المشكلة حين تتأزم وتتحول الى نزاع يصعب حله، بل في البدء بمعالجتها حال ظهورها وقبل تحولها الى صراع ونزاع سياسي وعسكري. 


ان الدبلوماسية ليست قادرة على معالجة المشكلات المعقدة بين الدول فحسب، بل في مقدورها ايضا التدخل لمعالجة المشاكل القائمة في البلد الواحد. وهي مسألة ذات اهمية فائقة خاصة عندما ترتبط القضية بالصراعات القومية وبروز مظاهر الشوفينية والعنصرية او الفاشية السياسية في التعامل مع هذه القضايا من جانب النظم الحاكمة في البلدان المختلفة.

فرغم بروز الاتجاهات الارهابية الجديدة لدى قوى الاسلام السياسي المتطرفة في العالم، الا ان الدبلوماسية قادرة على تعبئة الرأي العام العالمي والمجتمع الدولي لمواجهة هذه الظاهرة.
أما الإعلام فيعبر عن علاقة أخرى في المجتمع الواحد وعلى الصعيد الدولي، فهو يجسد نبض الشارع والناس والدولة في آن واحد. وهو في علاقته المباشرة مع البشر، وخاصة في ظل التقنيات الأكثر حداثة وتقدماً، قادر على الوصول إليها دون جواز سفر والتأثير فيها وفي الأحداث الجارية سلباً أو إيجاباً. والإعلام يجسد هو الآخر خبرة تاريخية طويلة ولكنه ليس بعمر وخبرة الدبلوماسية السياسية. وإذا كانت الدبلوماسية في العلاقات الدولية تشمل مختلف جوانب العلاقات الدولية، فإن مجال الإعلام أوسع من ذلك بكثير وأرحب في الوقت نفسه. والإعلان الواعي والمسئول يمكنه أن يساهم في معالجة مختلف مشكلات العالم عندما يعالج كل مشكلة من خلال دراستها من مختلف جوانبها وإدراك العقد التي تحوم حولها وتقديم تصورات عن الحلول العملية الممكنة لها، وبالتالي الدفع باتجاه التزامها من جانب الدبلوماسية لصالح الطرفين المتنازعين مثلاً وبعيداً دون إثارة الصراعات وتشديد النزاعات. 

لا يعبر الإعلام عن رأي شخص واحد أو موقف واحد أو فئة واحدة. فهو تابع للدولة أو لشركات الإعلامية العملاقة أو لأحزاب وقوى سياسية، وهو أحياناً قليلة مستقل عنها ويعبر عن رأي أصحابها أو كتابها. ومن هنا فدور الإعلام أكثر تعقيداً وحيوية وهو سلاح ذو حدين يعتمد على سبل التعامل به ومدى نضوج الوعي السياسي والاجتماعي لا في الهيئات الإعلامية فحسب، بل وفي المجتمع. فوعي المجتمع يلعب دوره البارز في التأثير المباشر على الإعلام، والعكس صحيح أيضاً. 
لا يمكن للدبلوماسية أن تستغني عن الإعلام في توضيح المواقف للرأي العام في هذا البلد أو ذاك أو الرأي العام 
العالمي، كما لا يمكن للإعلام أن يلعب دوره الفعال دون التماس بالدبلوماسية ومعرفة المواقف والحجج والتحليل للمشكلات القائمة. إنهما عاملان أساسيان في العلاقة بين الشعوب والدول ومتبادلا الفعل والتأثير. 

يمتلك الإعلام قدرة التفاعل مع مختلف الفئات الاجتماعية ويوفر المعلومات الضرورية حول أية مشكلة مطروحة على بساط البحث ويستطلع آراء الناس حولها ويبدأ بتشكيل رأي عام وفق الوجهة التي يلتزم بها، سواء أكانت تلك المشكلة محلية أم إقليمية أم دولية، وسواء أكانت سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية أم ثقافية أم عسكرية أم بيئية أم مرتبطة بحقوق الإنسان. فالإعلام يمتلك في مرحلة العولمة كل تقنيات الاتصالات الأكثر حداثة لإيصال المعلومة إلى الفرد في كل أنحاء العالم وفي لحظات سريعة. 

الإعلام يمكن أن يمارس دوراً ضاغطاً على العملية الدبلوماسية في معالجة المشكلات إما تعقيداً وتشديداً في المواقف أو تخفيفاَ وتسهيلاً لحل المشكلات مدار البحث. وهذه المسالة لا تخضع لطبيعة المشكلات المطروحة على بساط البحث فحسب، بل وعلى مستوى الإعلام ذاته ومدى استقلاليته وحياديته إزاء الأمور المطروحة، وكذلك بوعي الإعلاميين والمجتمع. وغالباً ما يحصل تصادم بين الإعلام والدبلوماسية في مواجهة العديد من المشكلات، إذ ليس سهلاً إيجاد لغة مشتركة باستمرار بينهما، فالدبلوماسية غالباً ما تكون بيد الدولة في حين يتوزع الإعلام بينها وبين جماعات أخرى كثيرة في البلدان التي لا تسودها النظم الشمولية، أو إذا غابت الشفافية والمجاهرة عن العمل الدبلوماسي بالنسبة للمجتمع.

وهنا يمكن القول بأن الدبلوماسية تختلف من بلد إلى آخر بحكم خمسة عوامل مهمة، وهي:
1.طبيعة النظام السياسي القائم ومدى توفر أو غياب الحرية والديمقراطية للفرد والمجتمع.
2.مدى تمتع الصحافة وبقية أجهزة الإعلام المرئية والسمعية والبصرية بالحرية والاستقلالية في التعبير، ومدى خضوعها لاحتكار الدولة أو احتكار شركات عالمية تفرض رقابة ووجهة معينة على العمل الإعلامي وعلى النشر ووصول المعلومة. 
3.وعي المجتمع من النواحي السياسية والاجتماعية بشكل خاص ومدى قدرته في الوصول إلى المعلومات المطلوبة 
4.مستوى تطور وعي الإعلاميين وقدرتهم على التعبير عن القضايا المطروحة ومدى إخلاصهم للمهنة التي يعملون فيها.
5.دور الدولة في المجاهرة ونشر المعلومات الضرورية المطلوبة للتعريف بجوانب المشكلات المثارة. 

وتقدم لنا تجارب السنوات الأخيرة صورة واضحة عن الدور الذي يمكن أن تمارسه الديبلوماسية في المساعدة في حل المشكلات بالطرق السلمية وكذلك وسائل الاعلام غير المرتبطة بجهات سياسية او عقائدية او دينية في الحد من الصراعات المحلية والاقليمية وتوعية الناس وتأهيلهم بشكل صحيح، بعكس ما تقوم به الاشاعة سواء في تأجيج الصراعات او في تعقيد الامور وتصعيدها وصولا الى اشعال الحروب المحلية والإقليمية. ويمكن لمنطقة الشرق الأوسط أن تقدم صورة أكثر واقعية عن دور الدبلوماسية ودور الاعلام الهادف وعلاقتهما المتبادلة في الموقف من المشكلات القائمة اليوم في العالم، والدور الذي تلعبه الاشاعة في مجتمعات تزداد فيها نسبة الامية وتقل فيها الحصانة الفكرية.

قدمت المداخلة بالانكليزية الى ألمؤتمر العالمي الذي استضافته مؤسسة ( ذي فيلا ديسيوس ) البولندية، الذي عقد في مدينة كراكوف ببولندا تحت شعار ( دور الاعلام والمنظمات المدنية في اعادة السلام الى مجتمعات مابعد النزاعات) يومي التاسع والعشرين والثلاثين من ايلول ( سبتمبر ) 2004. شارك فيه العديد من الشخصيات الدولية المعروفة. وكان كاتب المداخلة احد المدعوين اليه.
اعلامي عراقي ومدير عام تلفزيون شبكة الاعلام العراقي( العراقية) سابقا.


ahewar

AM:02:19:27/05/2019