تربية إعلامية بمسدس الديمقراطية – ياس خضير البياتي
شهق الناس

(ياقوم لا تتكلموا)، هكذا صرخ الشاعر الكبير معروف الرصافي بلغة النهي تعبيرا عن تسلط المستعمر (لا تتكلموا)، ليؤكد المغزى الأكبر للمعنى الاهم (ان الكلام محرم) على الشعب، ليستثمرها اليوم الزميل د. هاشم حسن عميد كلية الاعلام -جامعة بغداد في مقالة صحفية نقدية عن مستعمر جديد يريد اسكات صوت العلم، ليستبدله بصوت التخلف، وتحويل الجامعة من مختبر لاكتشاف الحقيقة العلمية الى ميدان للغيبيات والموت، عندما تناول في صحيفة الزمان بتاريخ 28/5/2019  إشكالية تذمر بعض( الجهات السياسية وقواتها المسلحة) من منهج التربية الإعلامية ،وتهديد أساتذة الكلية بأنواع الأسلحة (كالتشهير والتسقيط والتهديد بقطع الرؤوس على الطريقة الداعشية ) كما يقول. وهو امر غريب يصل الى حد عدم التصديق، فقد نصدق ان تتدخل مثل هذه الجهات بأمور السياسة والتجارة، لأنها أصبحت من حقوقها الطبيعية، وصارت منهجاً عراقياً بالتوارث السياسي، وبقوانين المعتقدات والأعراف المستحدثة، لكن ان تتدخل في تقييم مساقات الجامعة الدراسية، فهذا هو الاغرب، كأنها نادرة من نوادر جحا وحماره الغبي.

 يبدو ان التربية الإعلامية في اوطاننا أصبحت عالة على الحاكم والطبقات السياسية لأنها منهج لديمقراطية العقل، وحرية الفكر والراي، مثلما هي مختبر لكشف خداع الاعلام وتضليله، وكشف المستور في اوطان اصبحت ثيابها ممزقة ،وخالية من الذوق والخيال، ولم يعد حكامها واحزابها داخل تغطية الوطن، وصار تجهيل الناس منهجا لتغطية الحقيقة، لذلك اسسوا عشرات القنوات الإعلامية والمواقع الالكترونية لبث الأكاذيب والجهل، وثقافة التخلف، وتغييبهم بقصص الماضي التي صارت حكاية من الماضي ،بهدف السيطرة عليهم ،والتلاعب في عقولهم ومداركهم واتجاهاتهم. مما يجعل (التربية الإعلامية) عدوا حقيقيا لهم ،مادامت تكشف المخفي من قاذوراتهم السياسية ،والاعيبهم ،وطقوسهم واحلامهم المريضة . اليس هذا الدرس العقلي الجميل يكشف المستور، ويرفع الغطاء عن مجاري الصرف السياسي العفنة، وبالوعات السياسيين القذرة، لأنه (مشروع دفاع) يتمثل هدفه في حماية الجمهور من المخاطر التي استحدثتها وسائل الإعلام، والكشف عن الرسائل (المزيـفــة)، (والقــيــم غــيـر الـمــلائـمــة)، وتشجيعهم على رفضها وتجاوزها.

ثقافة اعلامية

 ولم يعد هذا الدرس (مشروع دفاع) فحسب، بل (مشروع تمكين) أيضاً، يهدف إلى إعداد الشباب لفهم الثقافة الإعلامية التي تحيط بهم، وحسن الانتقاء والتعامل معها، والمشاركة فيها بصورة فعالة ومؤثرة. فما العيب ان يدرس شبابنا هذا الدرس الحضاري الذي يبرمج العقول نحو فهم اسرار الزيف والتضليل الذي تمارسه وسائل الاعلام اليوم؟

  ولمن لا يعرف هدف (التربية الإعلامية ) ،ولماذا تدرس اليوم في المدارس والجامعات في  العالم ، فهي من أجل تدريب الطلبة وإكسابهم مهارات القدرة على إبداء وجهات نظر نقدية فيما يقدم لهم من خلال وسائل الاتصال التقليدية والجديدة ، وتشجيعهم على النقد ،ومساعدتهم على حسن التمييز بين الحقيقة والزيف ،وبين ما هو ثابت وصائب وماهو تافه وظاهري، ومساعدتهم على تكوين شخصية مستقلة قادرة على التقييم، والتعرف على مصادر النصوص الإعلامية، وأهدافها السياسية والاجتماعية والتجارية والثقافية، والسياق التي وردت فيه، والتحليل وتكوين الآراء الانتقادية حول المواد الإعلامية ،أضافة الى اختيار وسائل الإعلام المناسبة التي تمكن الشباب من توصيل رسائلهم الإعلامية أو قصصهم، وتمكينهم من الوصول إلى الجمهور المستهدف، وحمايتهم من التنمر الالكتروني .

 وهذا ما دفع مربين امثال (جورج لوكاس) إلى القول (إذا لم يعلم الطلبة لغة الصوت والصورة، فأننا نعتبرهم أميين تماماً، كما لو تركوا المدرسة دون معرفة القراءة والكتابة)، فالثقافة الإعلامية ضرورة للمدرس والطالب بوصفها مهارات جديدة يحتاج الجميع الى اتقانها، وهي مهارات تحليل الرسالة الإعلامية ومهارات انتاجها. فنحن مجتمع أمي بصرياً لا نعرف ان الصورة نص مجرد، يجب ان تقرأ بعناية، وأن لا معنى للصورة دون قراءة، وفهم الصورة يعني فهم ألوانها، ورموزها وتاريخها ودرجة إضاءتها. فالطالب الناجح هو طالب ناشط ناقد، يفهم لغة الإعلام من صور ونص.فما الذي يمنع ان يقتحم هذا المنهج الدراسي الجديد مدارسنا وجامعاتنا ليؤسس منهجا تحليليا وتفكيكيا قادرا على مواجهة غبار (يورانيوم) الاعلام الذي بدأ يقتل الكثير من القيم والمفاهيم والأخلاق بطريقة الرموز السرية المعقدة، والمعاني المخفية. ربما من يقرأ المقالة، سيكتشف سر هذه العداوة للتربية الإعلامية التي تفتح آفاق المعرفة للجميع، وتبني منهجا علميا في تفسير الحدث والمضمون، وتعمق فكرة الديمقراطية، وحق الانسان في النقد والتحليل، واكتشاف اسرار الحدث ومضمون الرسالة، وبناء الشخصية المستقلة، وخلق ثقافة التفكير النقدي التأملي، وبناء قدرات للوعي الإعلامي لتفكيك عملية تصنيع المواد الإعلامية، وفهم المنتجات الإعلامية، ومن ثم فهم كيفية استخدامها.

لأن التربية الإعلامية توفر مساحة كبيرة من الفرص المواتية لمعالجة المشكلات النفسية والثقافية والاجتماعية التي يعاني منها الطلبة في المدرسة كمشكلة الأمية الحضارية، والأمية التكنولوجية، والأمية السياسية، علاوة على التوترات التي تنشأ بفعل الاتصال مع الآخرين، وعدم الألفة، والتحيزية والاستغراق في المحلية وغيرها.

متخف ومستتر

 ثمة فخ يجب ان لا نقع فيه: إن الإعلام في عمقه البارد المتخفي والمستتر، ليس أكثر من ذراع ناعمة لتغيير شروط اللعبة، لعبة التحكم في العقول، وهندستها والسيطرة عليها من خلال بثّ الخزعبلات والخرافات على مدار الساعة، وتجريف الوعي واحرافه عن الواقع، وبث السموم والتجهيل، ونشر الشائعة والأخبار الملفقة، مما يحتاج الى وعي برموزه من خلال هندسة جديدة لفكر الشباب، وتفهم طبيعة المواد الأولية لتقوية الأساس، والدعامات الخرسانية التي تجعله صامدا امام الأعاصير المدارية للإعلام واسراره الخفية! اليس هذا هو السر ياصديقي الذي يجعل البعض يقف ضد (التربية الإعلامية)، ويستخدمو مسدس الديمقراطية المحشو ببارود التخلف، لإيقاف دمقرطة العقل، لأن هذا المنهج الدراسي هو برمجة علمية للعقل، تبدأ بالتحليل العلمي والتفكيك المنطقي، وتنتهي بمعرفة الحقيقة التي لا يريدها البعض، مادامت تحطم لهم خوارزميات اوهامهم المريضة المتعفنة مثل تعفن غلاصم السمك المنفوق!


azzaman

AM:02:49:16/06/2019