أن تكوني لاجئة فلسطينية في العراق..
أمل صقر

دائماً ما أُسال عن شعوري كلاجئة، في الغالب تكون إجابتي ضحكة ساخرة مع هز يدي يميناً ويساراً، تعبيراً عن استهزائي بالسؤال، أو أسحب أنفاس حسرة تلوج في صدري، مذ بدأت أدرك أنني غريبة في أرض غريبة. قد أجيب: "أنا أشبه بورقة شجر في مهب الريح لا بداية لانطلاقها ولا أفق يلوح لنهاية مسيرة وسقوط. هكذا… أحوم في فراغ كبير”.

أعيش في العراق منذ عام 1979، وبسبب المتغيرات السياسية بعد أحداث عام 2003 لم أعد لاجئة، إذ عدتني الحكومة العراقية طالبة لجوء، كغيري من الفلسطينيين المرحلين إلى العراق من مصر والكويت. كان والدي واحداً من الذين رحلوا إلى العراق وفقاً للاتفاقات السياسية. آنذاك كنت أعيش معه ومع والدتي وشقيقتي الكبرى في مصر، رغماً عنا انتقلنا مع أبي إلى العراق.

في عام مسيرة ترحيلنا إلى العراق، بدأت تضج شعارات حق العودة للفلسطينيين، فخرج علينا قرار جامعة الدول العربية "لا يحق للفلسطينين التجنس بجنسية البلد الذي لجأوا إليه لكي لا ينسوا قضيتهم”، فنسوها هم وحملنا نحن أعباء هذا القرار، إذ كتب على أجيال كاملة أن تنتمي ولا تنتمي لأي دولة في الوقت ذاته، وأنا واحدة من ملايين. كل هذا اللغط السياسي حدث وأنا لم أبلغ من العمر عامين، كتب علي حينها أن أحمل أعباء قرارات سياسية لا رأي لي فيها ولا حول ولا قوة، فعشت هكذا منتمية ولا منتمية. ولدت في مصر من أم مصرية وأحمل الجنسية الفلسطينية، كوالدي واعيش في العراق هكذا نشأت وهكذا عشت.

الطريف أنني حصلت على اللجوء في العراق في 25 حزيران/ يونيو من العام الجاري 2019 بعد مرور 42 عاماً على وجودي في العراق. عندما سلمني موظف اللجنة الدائمة لشؤون اللاجئين الهوية، وقفت صامتة لدقائق. في الحقيقة أردت أن أضحك، بصعوبة سيطرت على نفسي وسألته، ما الفرق الذي ستحدثه هذه الهوية لي؟ فقال الموظف بثقة، "الآن أنت مثلك مثل العراقي تماماً، تتمتعين بالحقوق التي يتمتع بها العراقي”. فسألته: هل يحق لي أن اشتري سيارة أو بيتاً؟ فأجاب: طبعاً. فسألته، "هل أستطيع أن أكون رئيس وزراء العراق؟”، ضحك وأجاب: "لا ليس لهذه الدرجة”.

أعتقد أن الموظف أخطأ في الإجابة، لأنني أعرف كما غيري من اللاجئين أن الفلسطيني لا يحق له التملك في العراق، أي أنه لا يستطيع أن يشتري بيتاً او أرضاً، وذلك كي لا تقوى جذوره في البلاد، ويبقى حاضراً في ذهنيته أنه في يوم ما سيرحل عن هذه الأرض لا محالة.

في الحقيقة لم أعرف وطناً لي غير العراق، على رغم من ذلك أنا لست عراقية وفقاً للقانون.

أشعر بأن لي قضية تربطني بوطني الأم فلسطين على رغم أنني لم أعرفه، ولم أعش فيه، ولا أحمل أي ذكريات من شوارعه ومطارحه. أما العراق، فأعرفه. أعرف شوارعه وبيتنا وأين لعبت ودرست رقصت وتنفست. هذا بيت صديقتي وذاك بيت جارتي. في هذه الجامعة درست وفي هذا الحي أعمل، وهناك مقهى لمواعيد الحب التي أقطعها.

كلها تطوف معي في مهب الريح، لأنني ببساطة كما جئت إلى العراق بقرار سياسي، يتم إبعادي بقرار سياسي آخر أو بقرار من موظف مزاجه تعكر لسبب أو لآخر كما حدث مع شقيقي.

أصيب عمر شقيقي في إحدى هجمات تنظيم القاعدة وفقد إحدى ساقيه فتأخر لأشهر ولم يذهب إلى مديرية الإقامة لتجديد إقامته، وعندما ذهب متكئاً على عكازه مع رفيقي دربه، كان هناك موظف عصبي المزاج لم يعجبه رد اخي بأنه "تاخر لأنه فقد ساقه”، وكان يرقد في المستشفى. لم يجده مبرراً كافياً للتأخر في تجديد إقامته فختم على ملفه، "إبعاد”. لم يفهم

أخي معنى ذلك، وعندما سأل، قالوا له، "سترحل من العراق إلى صحراء سوريا ستسكن في مخيمات الحسكة”. أخي من مواليد العراق كان في حينها يبلغ من العمر 22 سنة، أي عام 2005. خرج شقيقي من محنة فقد ساقه الى محنة فقد عائلته ووطنه وتوديع جميع ذكرياته والعيش في غربة جديدة أشد مرارة هذه المرة. لم أرَ شقيقي منذ ذلك الحين إلا عبر شاشة الموبايل. اكابر في كل مرة واجد صعوبة كبيرة في حبس دموعي. تنتابني في كل مرة مشاعر مختلطة.

أذكر مرة اقتحم أحد العاملين مكتبي في "بي بي سي” / القسم العربي، وصرخ في وجهي "لماذا تبقين في العراق عودي الى بلدك. فلسطينية وتتحكم بنا”. طبعاً هذه العبارة التي جاءتني بغضب كانت بعدما نبهته رسمياً بضرورة عدم التغيب عن العمل باعتباري مديرته، ضحكت وتابعت العمل وكأن شيئاً لم يكن، ولكن في الحقيقة كانت العبارة مؤلمة جداً.

وقبل فترة وجيزة عندما كنت عضواً في مجلس إدارة النقابة الوطنية للصحافيين في العراق، اكتشفت أن رئيس المجلس يلقبني بالأجنبية ويتآمر مع عدد من أعضاء مجلس الإدارة لإخراجي من النقابة. هذه الأمور تنكشف حين يختلف المتآمرون. ضحكت كثيراً على عبارة وردت في حديث له مع زملاء لي، وكان نصه "قريباً سنتخلص من الأجانب”. شعرت بحزن لأن من يبتسم في وجهي ويطلبون مساعدتي ودعمي، يتآمر ضدي في غيابي، بحجة أنني فلسطينية، أو "أجنبية”.

من غرائب هذه الدنيا، أن يكون تفكير رئيس مجلس نقابة صحافيين قاصراً إلى هذه الدرجة، على رغم أن الحزب الشيوعي الذي ينتمي إليه ينادي بضرورة دعم القضية الفلسطينية.

ولكن وعلى رغم الإجراءات التي تقيد حياتي في العراق وتشعرنني بأنني أعيش في سجن كبير، إلا أنني مضطرة للعيش والاستمرار. في إحدى المرات سألني باحث في أحد المراكز البحثية في لقاء عن تجربة اللجوء، وكنت واحدة من بين خمسة لاجئين اختارهم المركز من دول مختلفة للحديث عن شعورنا كلاجئين. سألني في نهاية اللقاء، إذا تغيرت الظروف وأتيحت لك فرصة العودة إلى فلسطين، هل ستعودين؟ كان السؤال صادماً، شعرت بخدر في أطرافي وبكيت.

فسألني: ما الذي يبكي أمل صقر؟

أجبته بصوت مبحوح: أوطان أنتمي إليها ولا أنتمي.

ناس

AM:05:08:15/08/2019