الأكراد ولعنة الأجندات
جمانة فرحات




يبدو كل ما يجري في سورية اليوم أقرب إلى مشهد سوريالي. اختارت تركيا إطلاق اسم "نبع السلام" على عمليتها العسكرية في شرق الفرات، وكأن الحروب قادرة يوماً على أن تعبّد الطريق إلى السلام. ودول لطالما أمعنت في استخدام السلاح وإشعال الفتن والحروب، لكنها تريد تصفية حسابات سياسية مع أنقرة، تندّد بالعملية، حتى أن مستوى التخاطب بلغ حد معايرة كل طرف الآخر بـ"حروبه"، وجامعة عربية غضت طرفها طويلاً عن كل ما جرى بحق مدنيي سورية استفاقت فجأة. والرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أصبحت تصريحاته خارج قدرة أي عقل على استيعابها، كقوله، في معرض حديثه عن الأكراد، إنه يحبهم لكنهم "لم يساعدوا الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الثانية وإنزال النورماندي". 


ولكل من هؤلاء غايات تحدد مواقفهم، فتركيا تحديداً ترى في وجود الأكراد على حدودها عاملاً مهدداً لأمنها القومي، وتعتبر أن الفرص الآن الأكثر ملاءمة لتنفيذ عملية عسكرية، لإبعادهم وتوجيه ضربة قاضية لمشروعهم السياسي، وإلا فإنها قد تضيع عليها نتيجة التحولات السياسية والميدانية. ولذلك لا تريد أن تسمح بأي انتقاد لها ومستعدّة لإشهار كل أسلحتها لمنع عرقلة هجومها، بما في ذلك العودة إلى سياسة الابتزاز بتهديد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، الدول الأوروبية بإرسال اللاجئين إليها، إذا استمرت في انتقاد العملية ووصفها بالاحتلال. ناهيك عن حرص غير مفهوم على إعطاء الحرب صبغة دينية. أما ترامب فغير آبه بكل ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، إلا بقدر ما تدر له الأحداث وتداعياتها من ملياراتٍ، يمكن أن يوظفها في معركته لجذب الناخبين.


ولكن كيف يعقل لسوريين عانوا من ظلم النظام السوري، وخبروا معنى أن تكون حياة المدنيين مهدّدة تحت القصف، وشهدوا ظلم النزوح والتهجير، تأييد ما يجري اليوم أو التشفّي بالأكراد؟
يمكن أن يُقال الكثير عن تحمّل القيادة السياسية والعسكرية لأكراد سورية، لا المواطنين، جزءاً من المسؤولية عن الوضع الحالي، نتيجة خطأ في حساباتها السياسية، وتضخم رهاناتها في السنوات الثماني الماضية. ولعل النقطة المركزية تمثلت بالفشل في حسم الموقف مبكّراً من النظام السوري، بعد اندلاع الثورة وتفضيل سياسة توزيع الأوراق تحت إغراء محاولاتٍ أكثر من طرف شدّ الأكراد إلى صفه، ثم جاءت الموافقة على التحوّل إلى أداة في يد الولايات المتحدة، وكيلا حصريا لمحاربة تنظيم داعش من خلالها، وتهميش المكون العربي السني، لتشكل الخطيئة الكبرى وتعكس حجم الفشل في إدراك خطورة اللحظة وترابط المصائر، سواء في الحرب ضد "داعش" أو النظام السوري.


وحدث ذلك كله على الرغم من أن المكوّن الكردي الذي عانى التهميش والاضطهاد والخذلان عقودا، يدرك أكثر من غيره أنه إذا كان من قاسم يجمع أنقرة مع النظام في دمشق وطهران وموسكو فهو إضعاف الأكراد، والقضاء على أي محاولةٍ لتحقيق مشروعهم السياسي، ونيل الحكم الذاتي الذي ظنوا أنهم باتوا قريبين منه، بعد انطلاق الثورة السورية وتراجع قوات النظام بعيداً عن مناطق النفوذ الكردي، ما أتاح لهم إحكام سيطرتهم على ثلث الأراضي السورية، وفرض سياساتهم، وحتى إنشاء الإدارة الذاتية لشمال سورية وشرقها. ولا يزال ما جرى في إقليم كردستان شاهداً، عندما اتفقت مصالح بغداد وأنقرة وطهران على توجيه ضربةٍ لقادة الإقليم بعد الإصرار على تنظيم استفتاء تقرير المصير.


لكن ذلك كله لا يمكن أن يستخدم مبرّرا لما يجري حالياً، سيما أن الخطأ في الحسابات السياسية على مدى السنوات الماضية ينطبق على الأكراد، كما على قوى المعارضة السورية وأضراره تطاول الجميع. سيقتل على الأقل مئات السوريين مدنيين ومسلحين من مختلف المكونات في هذه المعركة، وستتبدل بعض المواقف من العملية تباعاً، ولكن الحقيقة الوحيدة التي ستبقى قائمة أن الأكراد سيدفعون مرة جديدة ثمن تقاطع الأجندات الدولية والإقليمية ضدهم.


alaraby
AM:03:31:12/10/2019