حقائق على طاولة الشعوب
سوسن جميل حسن


هناك حقائق من الضروري تسليط الضوء عليها، لأهميتها في الواقع الراهن لمنطقتنا، وما آلت إليه الأمور في بلدان الانتفاضات الشعبية، والتي كان جديدها انتفاضة الشعب اللبناني، بعدما أوشك بلده على الانهيار الكامل، بوصوله إلى حافة الهاوية. حقائق ربما تجعل من قسمٍ لا بأس به من شعوب المنطقة يعيد حساباته بناء على فهمها، فيساهم ذلك في وحدتها على أهداف كبيرة ومجدية، بدلاً من تشتيتها وتشتيت حراكها.


الحقيقة الأولى أن انتفاضات الشعوب أمر بديهي وحتمي، خصوصاً بعد تراكم الظروف الموجبة على مدى عقود، كان الشعب يحتمل، بمبرّرات عديدة، بينما حاله تتردّى وتزداد سوءًا إلى أن وصل إلى حد الانفجار، ومن يستنكر هذه الانتفاضات فهو جاهل بأبسط قوانين الفيزياء التي لا تحتاج إلى علوم ومعرفة، بل التجربة أكبر معلم وصانع للخبرات، والتجربة لا تحتاج أكثر من ملاحظتها بالتكرار والإقرار بها والتعلم منها، مهما كانت درجة التعليم أو عدم التعليم، وهو أن الضغط يولد الانفجار، هذا إذا اعتبرنا، بنيّة حسنة، أن كل ناكري الثورات على الشعوب يشملهم هذا التصنيف، طبعًا غير العلمي أو الدقيق، فهناك شرائح تستنكر على الشعوب ثوراتها، مهما كانت المبرّرات واضحة وقوية.


الحقيقة الثانية أن كل القوالب تضيق على الشعوب مع تطور الحياة البشرية وتعقدها ونمو الاقتصاد وتغير قوانينه بحسب المرحلة. والتاريخ يقدم أدلة دامغة على الثورات التي حصلت في العالم بعد كل التحولات الكبرى، فكيف بشعوبٍ تعيش في عصر الثورة الرقمية وانفتاح العالم على بعضه بعضا وعصر حقوق الإنسان؟


والحقيقة الثالثة المرتبطة مع التي قبلها وما تمليه تلك التحولات والتغيرات في نظم الاقتصاد 
"هنالك شرائح تستنكر على الشعوب ثوراتها، مهما كانت المبرّرات واضحة وقوية" والإنتاج والإدارة، فإن طبيعة العقد الاجتماعي تغيرت، ولم يعد الولاء لزعيم القبيلة أو الجماعة أو الطائفة أو الحاكم المفرد أو النظام الشمولي المتسلط يليق بحياة الشعوب في هذه المرحلة من التطور التي حققتها البشرية، فصار العقد الاجتماعي مع الدولة القائمة على القانون والمؤسسات الضامنة للحقوق بدون تمييز، المتّسمة بالتجديد والتطور الموجهة بسلطة الشعب هو المطلب الأساسي الضامن لحقوق الأفراد واستقرار الدول ونموها وتطورها. لذلك من الطبيعي أن تحاول الشعوب المنتفضة، قبل كل شيء، تحطيم رموزها السابقة والأسس التي قامت عليها دولها، فكرّست الاستبداد والفساد والتفرقة والأصولية المرتبطة بأنساق الماضي الضيقة وأوصلتها إلى حياة من الركود والترهل وانعدام الحافز والطموح والأمل، كما انعدام الثقة بالنفس.


والحقيقة الرابعة التي يحتفظ التاريخ ببراهين تؤكدها لمن يريد أن يفتح سجلات التاريخ أنه لا يمكن عزل الجغرافيا عن التاريخ، ولا يمكن عزل دولةٍ عن محيطها في مرحلة تاريخية ما، وليست الثورة الفرنسية غائبة عن بال أحد، لو أردنا اتخاذها مثالاً، فلم تكن ثورةً تخص الأمة الفرنسية أو الشعب الفرنسي بمفرده، بل كانت جزءًا من حراك موّار طاول أوروبا بأكملها، وكانت ملهمًا لباقي الثورات، بل إن منتصف القرن التاسع عشر سمي الربيع الأوروبي، وقد امتد من فبراير/ شباط 1848 حتى أوائل العام 1849، شاركت فيه شعوب فرنسا والولايات الألمانية والإمبراطورية النمساوية ومملكة المجر والممالك الإيطالية والدنمارك وبولندا وغيرها 


"لا يمكن عزل الجغرافيا عن التاريخ، ولا يمكن عزل دولةٍ عن محيطها" من دول غرب أوروبا ووسطها، وكانت من أكثر الموجات الثورية انتشارًا في تاريخ أوروبا. ولقد بدأت بالثورة الفرنسية في فبراير 1848 ثم عمّت باقي المناطق بدون تنسيق أو تعاون، إنما بسبب استياء الشعوب من حكوماتها وعدم قدرتها على تحمّل ظروفها، اتسمت، في بعض مراحلها، بالعنف والفوضى، وذهب نتيجتها أعداد كبيرة كضحايا، لكنها في النتيجة رسمت خريطة جديدة للدول وحياة جديدة للشعوب، وكرست إصلاحات ومبادئ هامة وأسست لأنظمةٍ فيما بعد ضامنة للحقوق والديمقراطيات والحريات.


والحقيقة الخامسة أن القوالب التي تضيق بالشعوب تنسّقها المعطيات الجديدة، فإذا كانت الثورة الصناعية في تلك المرحلة أدّت إلى ثورات القوى العاملة والبورجوازية في وجه الإقطاع، فإن النظام العالمي الحالي وهيمنة القوى الكبرى والاحتكارات العابرة للقوميات والعولمة وانفتاح الشعوب على مفاهيم الديمقراطية والانتخاب وسلطة الشعب وتداول السلطات كلها سوف تؤدي إلى وعي الشعوب ذاتها وانتفاضها من أجل تحطيم قوالبها العتيقة المقيدة، والتطلع إلى مستقبلٍ يلبي طموحاتها.


الحقيقة السادسة أن المؤامرة ابتكار بشري، نما وتطور عبر التاريخ، وهي موجودة في قلب كل تجمع بشري، وبالقرب منه، ولا يمكن إرجاع ثورات الشعوب إليها، إنما من المجدي عدم  
"الانتفاضات المتزامنة، أو التي تتتابع، خصوصاً منطقتنا العربية، تحاول أن تستفيد من تجارب سابقاتها"إهمالها ويقظة الثورات تجاهها، ولقد كانت حاضرة أيضًا في عصر الثورة الفرنسية والثورات الأوروبية التي عاصرتها وواكبتها، فلقد تحالفت بعض الأنظمة في أوروبا من أجل حماية ملكياتهم وصد خطر الثورة ومنع تصدير أفكارها.


الحقيقة السابعة أن الانتفاضات المتزامنة، أو التي تتتابع في المنطقة نفسها، خصوصاً منطقتنا العربية، تحاول أن تستفيد من تجارب سابقاتها، وهذا ما لمسناه في التجربتين، السودانية والجزائرية، واليوم في الحراك اللبناني الذي فاجأ شعوب المنطقة. والواضح أنه يحاول أن يأخذ دروسًا من التجربة السورية، وما آلت إليه بعد سنوات تسع من العنف والحرب والتدخل الخارجي والارتهان إلى أجنداتٍ مخربةٍ وتكريس للتجييش الطائفي والعنصرية والتضليل الفكري الذي لعب الإعلام فيه دورًا كبيرًا ومؤثرًا، فأدى ذلك كله إلى انحراف الانتفاضة عن أهدافها ودخول البلاد في أزمةٍ كبيرةٍ ومعقدة وسلب الشعب السوري قراره. وواضح أن الشعب اللبناني اليوم يحاول تفادي المطبات القاتلة، فالمنصات التي تنصبها بعض القوى المدنية تلعب دورًا في حماية الوعي الجمعي عن طريق المواضيع التي تطرح للنقاش، وتوضيح بعض المفاهيم التي تخصّ مدنية الدولة والمجتمع المدني، وتمس القضايا الحياتية مباشرة، بالإضافة إلى تسليط الضوء على المشكلات الكبرى التي تورّطت فيها الطبقة السياسية من فساد وارتكابات ونهب المال العام وتكريس الطائفية والولاءات، حتى يعرف الشعب حقوقه، وينظم مطالبه، ويحدّد أهدافه بناء على قاعدة بياناتٍ واضحة ومحقّة.


هناك حقائق عديدة ومتنوعة، في الوسع إضاءتها، تدعم حتمية الحركات الاحتجاجية والانتفاضات لدى الشعوب، فهذا منطق الأشياء، وهي قوة القوانين الطبيعية التي تعيد ترتيب نفسها، وتمارس ماهيتها بحسب الظرف الذي توجد فيه. لدى شعوب منطقتنا أسبابٌ لا تحصى من مبرّرات الانتفاضات، ومحكومة بشروط وظروف إقليمية ودولية معقدة، وبأنظمة سياسية واجتماعية ودينية طاغية، تكرّس الخنوع والتبعية. وفي النتيجة، الشعب الذي يعرف طرقه يمشي فيها، وإذا كنا، نحن شعوب هذه المنطقة، بحكم تاريخنا وجغرافيتنا، مطمع القوى الكبرى وميدان إدارة حروبها ومصالحها، وأن مقولة إننا أداة ليس أكثر في ماكينة تلك المصالح والحروب والنزاعات تمكّنت من قسم كبير من شعوبنا، فأضعفت همّته وأفترت عزيمته وخلخلت ثقته بنفسه، فبإمكاننا أن نكون أداة بشرية، أي أداة مدركة ذاتها، ويمكنها تعطيل تلك الآلة الجبارة، وردعها عن رسم مصيرنا، فقط أن ندرك ذاتنا، ونلتقط اللحظة التاريخية، لحظة نزول الشعوب إلى الميادين واستلامها قيادة نفسها وتمكّنها من أن تكون سلطةً موازيةً تواجه سلطة الأنظمة المتهالكة.. إنها لحظة عظيمة يجب التقاطها.






alaraby
AM:04:16:12/11/2019