تمثلات وعي جيلي مغاير
د. علي حداد



(1)


تكتّرعن (الكذلة) ، وخل (إعكالك) للدكات .. هي (أهزوجة) ردّدها الشباب في ساحة التحرير منذ الأيام الأولى لانتفاضتهم ،


تستمد محصولها الثقافي الخصب من أحد أنواع التراث الشعري الشعبي العراقي المصطلح عليه (الهوسة) أو(العراضة)، ذلك النمط من الأداء الشعري الحماسي الخاص بالرجال غالباً الذي يقوم نظامه الإيقاعي على جملة قصيرة يقولها شخص متخصص في هذا الفن ، ويطلق عليه اسم (المهوال) ، حيث تأتي (هوسته) مؤداة في آخر ما يرتجله من شعر ، بجملة موجزة ومكثفة ومنضبطة موسيقياً ، ليقوم الرجال المحتشدون حوله بترديدها عدّة مرات بعده ، مؤدين معها رقصة تعبيرية خاصة.


ومن لم تصله معاني بعض مفردات (هوسة) الشباب هذه فإن كلمة (تكتر) بمعنى قف جانباً ، و(الكذلة) هي الشعر الطويل فوق الجبهة، وتلك قصة شعر يصنعها كثير من الشباب ، والشابات أيضاً . وربما يذهب مآل تأصيل الدلالة فيها إلى مفردة (القذال) العربية الفصيحة ، مع مناقلة في مكان الشعر المقصود، فهو في (القذال) ـ على ما تورده معاجم اللغة: مؤخرة شعر الرأس الطويل لدى الإنسان والخيل ، في حين أمسى هنا مقدمته. 


أما (العكال) فهو (العقال) ، و(الدكات) : ما تنتهي إليه بعض المشكلات في البيئات الريفية والشعبية ـ بعد فشل المفاوضات بين طرفي النزاع القبلي التي تعقد من أجل حلها ، ليؤول الأمر إلى مهاجمة بيت المعتدي أو الأخذ بالثأر منه.


وضعت الأهزوجة لفظة (الكذلة) بإزاء لفظة (العكال) لإنتاج دلالات متضادة، والمفردتان متزامنتا التداول في المعجم الشعبي العراقي ، إذ يذهبان بعيداً في زمانية الاستخدام الكلامي الذي استوعبته اللهجات العراقية في مختلف بيئاتها ، وكذلك بعض لهجات بلدان الخليج العربية ، وضمن خصوصيات تشكلها اللفظي الذي غايرت في كثير من مفرداته التداول الكلامي في البيئات الشعبية العربية الأخرى.


ولاشك في أن ورود المفردتين في الأهزوجة لم يكن بقصد تأشير السطح الدلالي المعلنّ في كل منهما بل ما يخبران به من حدّ كنائي ، لتكون (الكذلة) إشارة إلى جيل الشباب، و(العكال) لمن هم أكبر منهم سناً من الآباء والأهل عموماً.


وتستكمل المفردتان متنهما الدلالي المقصود حين تندرج كل منهما في مكتنفها اللفظي الذي تعاضدها فيه بقية مفردات جملتها، فقد توجه الفعل (تكتر) الذي يصدح به صوت متكلم من جيل الشباب إلى مخاطب من الجيل الآخر، يدعوه ـ وبنبرة تنبس بشيء من السخرية ـ إلى أن يقف جانباً، ويراقب بحيادية ما سيكون للـ (الكذلة = الشباب) من فعل وطني يتمرد فيه على السائد الذي لا يرتضيه ، وبجرأة وإقدام عجزت عنهما الأجيال التي سبقته تلك التي تملكتها الآن ـ وحسب رؤية الجيل الشاب ـ انشغالات بمشكلات أقل شأناً وأهمية.


(2)


حملت هذه الأهزوجة عمقاً دلالياً خصباً ومثيراً، فهي تترسم (العلامات) الممثلة لنمطين من السلوك الذي يشير إليهما مدلولها ببعدي تلقيه سواء المباشر المعلن ، أو الآخر الذي يقع تحت سطحه ، ويوصف بأنه (معنى المعنى) ، لتشير إلى صورتين متضادتين في التشكل والإنجاز، عبر تأشير منظومة من القيم الحاضرة التباين بين الأجيال ، لتكاشف التلقي وبإدلال متناه بصراع الأجيال من حيث الموقف والفكر ومواجهة المشكلات والجرأة في اتخاذ القرار المناسب لها.


ولعلها تؤشر ـ من بين ما تؤشره ـ مساحة التضاد بين وعي (مديني) جديد يعتمل في نفوس الأجيال العراقية الشابة وسلوكها ، بإزاء الغالب من الهيمنة القيمية (الريفية) التي تلبست سلوك الشخصية العراقية في أجيالها السابقة ، وهو ما يبدو أكثر تشخصاً في تلك الشخصية كلما أمعنا رجوعاً في مسيرة الزمن ، حيث تندّ تلك الهيمنة التي كان مصدرها الأساس مددها القادم إلى مراكز المدن العراقية ـ وبغداد خاصة ـ من الريف العراقي الذي أسبغ قيمه وممارساته واعتقاداته على المدينة ، لتفرض النزعة الريفية بمثلها وتراتبها القيمي ـ وبقوة الانتماء وكثافته العددية ـ كثير من اشتراطاتها على بنية المجتمع المديني ، وتتحكم به حتى وقتنا الراهن .


ولكن ذلك لا يتمثل المشهد المجتمعي العراقي كله ، ولاسيما في عقوده الأخيرة ، إذ أن متغيرات الحياة العصرية ومستجدات ثقافتها في السلوك والملبس والوعي والتعامل مع المنتج الإعلامي الحديث ـ الذي تغلغل بثه في كل شؤون الحياة وكشوفاتها ـ لم تكن لتترك ذلك متواتر الهيمنة ، وفاعلاً وحيداً في احتواء تطلعات أجيال جديدة ولدت بين يدي (أبوّة) اضطرت أن تعايش أزمنة استبداد سلطوي أنهكتها في حروب عبثية وحصارات مدمرة وتشرذم مجتمعي وخراب قيمي انتشر كالوباء في بناها كلها ، ثم ليأتي بعده ما رسخه الاحتلال الأمريكي من هيمنة سلطوية فاسدة في كل مجالات فعلها الذي لم يعد فيه من أمل لبزوغ أفق مستقبلي منتظر يحقق للأجيال الجديدة الشابة ما تحلم به وتتمناه ، وهي التي تهيأ لها أن تتسع مساحة بصرها وبصيرتها ـ عبر وسائل الاتصال الحديثة ، وأن تقارن بين ماهي فيه وما يعيشه ويتنعم فيه سواها من شباب البلدان الأخرى . وعند هذا القدر من المكابدات لم يكن أمام تلك الروح الشبابية المصغية لنزوع التجديد من بد إلا أن تباعد وجودها عن كثير من طروحات الاستكانة التي تملكت الأجيال قبلها، وأن تعبر عن تمردها في الملبس والسلوك والاهتمامات ، بل حتى في مفردات التداول اللغوي التي تتخاطب بها فيما بينها.


ولكن أنى لذلك وحده أن يستوعب نزوعها الإنساني بحيويته وجرأته وتطلعاته ، وقد أبصرت ما يثير حفيظتها من فساد الطبقة الحاكمة ـ منذ التغيير وحتى اليوم ـ تلك الطبقة التي أبانت عن مقاصدها، عبر نهمها في إشباع نوازعها الأنانية الضيقة، وفشلها في تحقيق تطلعات الشعب الذي ظن بها خيراً فخاب ظنه ، وإهدارها لثروات البلاد، وتدمير بناها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية،. وسيكون من البداهة ـ وضمن ذلك كله ـ لامبالاتها في استيعاب جيل الشباب وتحقيق طموحاته وأحلامه المشروعة. 


وهكذا لم يجد هذا الجيل ـ الذي لم يكن كثير من أبنائه يوم جاء هؤلاء الذين تسيدوا المشهد السياسي إلى السلطة قد ولد بعد ، أو كانوا ما يزالون يرضعون حليب أمهاتهم حين ذاك ـ إلا أن يعلي من شأن تمرده فيحيله انتفاضة عارمة لا تبقي ولا تذر.


لم تلوث السياسة معظم أبناء هذا الجيل، ولم تغوهم الأحزاب الحاكمة بالامتيازات والمصالح. وبالمقابل لم تكن غضبتهم غريزية مندفعة بلا عمق شعوري راسخ، بل كانت نتاج ما يحيق بهم من إحباط وفقدان الأمل بحياة آمنة وتعليم جيد وفرص عيش كريم ، ليتراكم ذلك مع ما يرونه ويسمعونه ويعايشونه من مكابدات أهلهم وعوائلهم . 


لقد انتشرت في صفوفهم الأمية حتى تجاوزت نسبتها ـ بين عمر السادسة عشرة والعشرين وحسب بعض الإحصاءات الرسمية ـ الثلاثين بالمئة من أعدادهم. لكن أميتهم العلمية لم تقف عائقاً أمام وعيهم بما يعانيه أهلهم ووطنهم .


وكنا نظنهم ـ وكان ظننا إثماً مركباً ـ أنهم ـ فيما يلبسون ، وفي قصات شعورهم الغريبة على ما اعتدناه ، وفي انشغالهم بألعاب (الموبايل) ـ جيل عابث لأهم له إلا المظاهر التي لا نفع يرجى منها ، وما علمنا أنهم كانوا يراكمون حدساً وطنياً جمعياً مغايراً، ويدّخرون مشاعر انتماء باذخة لم يستلهموها من الكتب أو المناهج المدرسية التي نلح عليهم بحفظها، بل عبر تراكم قيمي لافت أسسوا عليه حضورهم المتمرد والرافض. لتجيء لحظتهم الوطنية الصادحة بصحو غير معهود واندفاع لا يجارى، فكانت انتفاضتهم الباسلة التي أرخت لزمن غضب عراقي أكثر وعياً بما يريد وأشد إصراراً على تحقيق أهدافه .


فعلوا ذلك من دون أن يغادروا تأسيسهم المجتمعي العراقي بعمقه وأريحيته ، فقد أبدوا إلتزاماً أخلاقياً عالياُ، أثبتوا من خلاله أن قيمهم أنقى ونخوتهم مزكاة ، فما ذكرت في ساحات اعتصامهم حالة تحرش واحدة على الرغم من الزخم البشري الهائل ووجود كثير من البنات المنتفضات مثلهم ، اللواتي ازدهى ماء الحسن على وجوههن مخلوطاً بالغضب الوطني النبيل.


خلخل هؤلاء الشباب ـ بنيناّ وبنات ـ المعادلة الجيلية ، وما تواتر ضمنها من القيم التي عشعشت ظنا بارداً عن كثير من الأفكار والمواقف والادعاءات المتعلقة بزمانهم وإشكالات وجودهم فيه ، وإلا من كان سيصدق ـ مثلاً ـ أن (التك تك) الذي طالماً ضايقتنا حركته (الفأرية) الضّاجة في الشوارع ، وجرأة سواقه واندفاعهم ـ يأتي عليه اليوم الذي يستحيل فيه رمزاً لثورة وطنية شبابية عارمة يؤدي فيها سواقه ـ الذين لم ينل أغلبهم فرص تعليم كافية ـ أدواراً بطولية لاتجارى ، من خلال تفانيهم ، وتقدمهم الصفوف وتسابقهم لحمل المصابين والجرحى ، والتبرع بنقل المواطنين إلى ساحة التحرير مجاناً، لينهال عليهم الثناء ، وتكتب فيهم وفي (تكتكهم) القصائد والأهازيج ، وتؤلف الأغاني ؟


فعل شبابنا ما فعلوا ، وهزجوا صادحين بما تراكم في أعماقهم من أسى وغيظ وغضب، مصعدين ذلك رداً على ظنوننا التي كشفوا بطلانها ، وهو أمر لا يخلو من إدانة للأجيال الأكبر منهم عمراً تلك التي ترسخ في أعماقها خوف مزمن منذ النظام السابق الذي مارس عليهم بطشه وجبروته ، وواصل كثير منهم تمثله في المرحلة الراهنة من دون فعل وطني كبير يفضح الجور والفساد وضياع الحاضر والمستقبل بين أيدي حفنة من الفاشلين والفاسدين.




المدى 
AM:04:18:12/11/2019