تسطيح منحنى الكورونا واجب إنساني ووطني
آلان م نوري

متابعة خاصة – آلان م نوري

نشرت الجامعة الأميركية في بيروت دراسة تهدف إلى التوعية بمخاطر عدم التقيد بإجراءات التبعيد الإجتماعي للوقاية من وباء الكورونا في لبنان. عرضت الدراسة ثلاث سيناريوهات هي: سيناريو التقيّد الصارم بتوصيات  و أوامر التبعيد الإجتماعي، و سيناريو التقيّد الجزئي بالتوصيات والأوامر، ثم سيناريو عدم التقيّد، و بنت نموذجا للتنبؤ بإنتشار الوباء في السيناريوهات الثلاث فكانت النتيجة كالآت:

تسطيح منحنى الكورونا واجب إنساني ووطني

www.nasnews.com

كما يظهر من الجدول، فإن التقيد الجزئي يؤدي إلى منع اصابة مليونين و 754 الف و 429 شخصا، و يحفظ حياة 169 الف و 176 شخصا، و هو رقم أكثر بعشرين الف من التقدير الأكثر لضحايا الحرب الأهلية في لبنان (1975-1990) والذي يقدر بـ 100-150 الف ضحية. اما إذا تم التقيّد الجدي بالأوامر و التوصيات، فإن ذلك سيحفظ حياة عشرين الفا آخرين و يؤمن عدم اصابة 42.28% آخرين من سكان لبنان بالوباء. كيف يمكن للأرقام أن تتفاوت بهذا الشكل الكبير؟

www.nasnews.com

تعرّف على آليات عمل الأوبئة

يعتبر فهم آليات الإنتشار الوبائي مهما جدا في اقناع المواطنين بالتقيّد الطوعي بإجراءات التبعيد الإجتماعي. فالوباء لا ينتشر بشكل خطي، أي أنه لا ينتشر من 1 إلى 2 إلى 3 إلى 4 …وهكذا، بل ينتشر انتشارا مضطردا في الزيادة، كأن ينمو من 1 إلى 2 و ثم إلى 4 ثم 8 ثم 16 ثم 32…وهكذا. كما هو مبين في المخطط التالي، بإفتراض أن المحور العمودي يرمز إلى عدد المصابين و الأفقي إلى عدد الأيام، فإن النمو المضطرد في الزيادة يبدو من الضآلة بحيث لا ينتبه الناس إلى وجوده و خطورته قياسا بالنمو الخطي، ولكن انظر ماذا يحصل بعد اليوم المعلّم بـ X:

تسطيح منحنى الكورونا واجب إنساني ووطني

www.nasnews.com

و للمزيد من التوضيح ، و بما اننا دخلنا فصل الربيع، لنتخيل مرجا فيه نبتة واحدة من زهرة النرجس، و إذا افترضنا أن نبتة النرجس الواحدة تتضاعف يوميا، أي أن كل نرجسة تنتج نرجسة أخرى كل يوم، و إذا امتلأ المرج كليا بالنرجس في 100 يوم، فكم من المرج غُطّي بالنرجس في اليوم التاسع و التسعين؟ الجواب: نصف المرج فقط! معظم الزيادة في عدد الأزهار ستكون في الثلاثين يوم الأخيرة قبل امتلاء المرج. بينما يبدو للناظر أن المرج خال في الايام السبعين الأولى. هكذا هو الحال مع الأوبئة، و هذه هي خطورة الإنتشار الوبائي. 

ولكن طبيعة الإنتشار الوبائي وحدها لا تفسر الأنباء المفجعة عن موت المئات يوميا في بلد متقدم مثل إيطاليا. فهناك ما هو أخطر من طبيعة الإنتشار الوبائي. 

www.nasnews.com

أن قُدّر لي أن أصاب بالكورونا، فما الفرق بين اليوم و الغد؟

طبيعة مرض الكورونا نفسها ليست موضع الخطورة، بل سرعة انتشاره الوبائي و حاجة نسبة كبيرة من المصابين به إلى الخدمات الصحية المتوفرة في المستشفيات حصرا. وكل بلد مهما كان متقدما يوجد فيه عدد محدود من اسرة المستشفيات، و الأطباء و الممرضين و الأجهزة و المعدات الطبية. هذا يعني أن كل بلد له طاقة استيعابية محدودة يوميا، فإن زاد عدد من يحتاجون إلى الرعاية الطبية عن هذه الطاقة الإستيعابية،ف ي أي يوم،  فإن الزيادة هذه، و هم بشر لهم حق الحياة كغيرهم، سوف تتعرض حياتهم لخطر الموت لعدم توفر مستلزمات الخدمة في ذلك اليوم. انظر المخطط التالي:

تسطيح منحنى الكورونا واجب إنساني ووطني

www.nasnews.com

لنفترض جدلا أن العدد الإجمالي للذين سيصابون في نهاية المطاف هو نفسه سواء التزمنا بالتبعيد الإجتماعي أم لم نلتزم، و أن مستوى قدرة استيعاب المؤسسات الصحية في البلد لليوم الواحد هو X. في سيناريو عدم الإلتزام نرى أن الذين سيصابون، ستكون إصابتهم في أيام متقاربة، وهذا يعني أن عدد المصابين اليومي سيفوق الطاقة الإستيعابية للمؤسسات الصحية في أغلب الأيام، و يعني ذلك تعذّر الرعاية الصحية لأغلب المصابين و المرضى العاديين في تلك الأيام. و سيرفع ذلك من أعداد الوفيات غير المبررة ، لا لشيء سوى تعذر رعايتهم في ذلك اليوم. اما إذا التزم الجميع بإجراءات التبعيد الإجتماعي، فإن ذلك يباعد بين اوقات الإصابة بين المواطنين و يجعل من مستوى الإصابات اليومية تحت خط قدرة المؤسسات الصحية، مما يعني توفر الخدمات للجميع، و تقليل عدد الوفيات إلى الحد الأدنى. 

أعداد الوفيات من جراء الإصابة بوباء الكورونا في ايطاليا، البلد المتقدم، فاقت الصين، لا لأن الخدمات الصحية في إيطاليا اسوأ من أي بلد آخر، بل لأن آلاف الإصابات حصلت بشكل جماعي و في ايام معدودة، ففاقت بذلك الطاقة الإستيعابية للخدمات الصحية المتاحة في اليوم الواحد. حدث ذلك يوميا و لأكثر من أسبوع، فحصلت الكارثة.

إذا فاللإلتزام الصارم بالتبعيد الإجتماعي، حتى و إن لم ينجح في تقليص أعداد المصابين، فإنه يباعد بين ايام الإصابة بما يكفي لعدم انهاك المؤسسات الصحية، فينقذ بذلك ارواح آلاف مؤلفة من الموت.

www.nasnews.com

ماهو مستوى القدرة اليومية للمؤسسات الصحية في العراق؟ اين نحن من العالم؟

مسألة التشخيص الدقيق لخط مستوى الطاقة الإستيعابية اليومية للخدمات الصحية في العراق ، يجب أن يكون من الأولويات الأساسية لعمل السلطات الصحية في البلد، ولكن مما متوفر من بيانات يمكن مقارنة جاهزية العراق بلبنان و بمجموعة دول الشرق الأوسط و شمال افريقيا المعروفة بـ MENA، وكذلك بمتوسط احصائيات العالم… فلو أن بلدا مثل لبنان يقدر من خلال الإلتزام الصارم بالتبعيد الإجتماعي أن ينقذ حياة 170 الف من مواطنيه، فكم ممكن للإلتزام الصارم أن ينقذ في بلد مثل العراق الذي مؤسساته الصحية اسوأ حالا من مؤسسات لبنان؟

حسب آخر الإحصاءات المتوفرة لدى البنك الدولي، يوجد في العراق 1.4 سريرا في المستشفيات لكل ألف شخص. بينما يتوفر 1.628 سريرا لكل ألف شخص في بلدان MENA. و في لبنان يوجد 2.9 سريرا لكل ألف. متوسط بلدان العالم هو 2.705 سريرا. إذا لبنان يمتلك ضعف عدد اسرة العراق لكل الف شخص.
ما سبق يعني أنه إذا زاد العدد اليومي لمن يحتاجون اسرة في مستشفيات العراق كافة عن 60 ألف شخص، فسيضطر الباقي إلى الإستلقاء على الأرض و في الممرات.

اما بالنسبة للأطباء، فيوجد في العراق 0.822 طبيبا لكل ألف شخص، وفي MENA يوجد 1.259 لكل ألف شخص ومتوسط العالم هو 1.502، بينما يوجد في لبنان 2.271 طبيبا لكل ألف شخص. أي أن في لبنان ثلاثة اضعاف الأطباء لكل ألف شخص قياسا بالعراق.

ما سبق يعني أنه إذا زاد العدد اليومي لمن يحتاجون إلى طبيب في العراق عن  31 الفا، فإن الباقين لن يجدوا طبيبا ينظر لحالهم.

في العراق، هنالك 1.68 ممرضا لكل ألف شخص. بينما في MENA يوجد 2.315 ممرضا و متوسط العالم هو 3.423 ممرضا لكل ألف شخص. لبنان لديه 2.645 ممرضا لكل ألف شخص. أي أن في لبنان حوالي ضعف عدد الممرضين لكل ألف شخص قياسا بالعراق.

و ما سبق يعني انه إذا زاد العدد اليومي لمن يحتاجون إلى ممرضين عن 64 ألف شخص في العراق، فالباقون لن يحصلوا لا على خدمات طبيب و لا على خدمات ممرض.

www.nasnews.com

لماذا الحال بهذا السوء في العراق؟

كما يتضح مما سبق، فإن جاهزية الخدمات الصحية في العراق يتخلف عن جيرانه في المنطقة و عن العالم بشكل مخيف. المخطط التالي يظهر أن العراق و منذ عام 2009 يقلص صرفه على الخدمات الصحية لكل مواطن سنويا، حتى اصبحنا متخلفين عن لبنان و المنطقة و العالم بهذه الدرجة. انظر المخطط التالي للإنفاق الحكومي على الصحة لكل مواطن من 2000 إلى 2016،  في العراق (ممثلا بالخط الأخضر) قياسا بالبقية:

تسطيح منحنى الكورونا واجب إنساني ووطني

www.nasnews.com

حسب آخر الأرقام المتاحة، تنفق الدولة العراقية 115 دولار سنويا على الصحة لكل مواطن. بينما MENA تنفق 769 دولارا لكل شخص، و لبنان 598 دولارا لكل شخص و متوسط إنفاق دول العالم على الصحة لكل شخص هو 941 دولارا في السنة. أي أن متوسط الإنفاق السنوي على الصحة للشخص الواحد في العالم هو أكثر من ثمانية أضعاف ما تنفقه الدولة العراقية على مواطنيها.

بخلاف العالم كله، و منذ عام 2012، تقلص الدولة العراقية سنة بعد اخرى، أكثر فأكثر من حصتها من مصاريف الصحة في البلد، حتى بلغت حصتها من المصاريف الصحية في العراق 21.12% فقط من مجموع المصاريف، و القت بالباقي بشكل متزايد على كاهل العوائل العراقية. في لبنان تتكفل الدولة بنسبة 52.13% من مجموع المصاريف الصحية السنوية في البلد. و بلدان MENA تتكفل بـ 59.83% من هكذا مصاريف. بينما متوسط نسبة تولي دول العالم لمصاريف الصحة في بلدانها هو 74.26% من  مجموع المصاريف السنوية. أي أن دول العالم تتحمل من المصاريف السنوية لصحة مواطنيها ثلاثة اضعاف ونصف ما تتحمله الدولة العراقية من مصاريف صحة مواطنيها. أنظر إلى المخطط التالي (العراق باللون الأخضر): 

تسطيح منحنى الكورونا واجب إنساني ووطني

www.nasnews.com

ويتضح مما سبق جليا، أن الإلتزام بالتبعيد الإجتماعي، إن كان كفيلا في لبنان بإنقاذ حياة عدد من السكان يزيد عن ضحايا الحرب الأهلية في ذلك البلد، فإنه كفيل في العراق  بإنقاذ عدد يقارب ضحايا كل حروب العراق منذ الثمانينات إلى اليوم.

غول الفساد و الأولويات الخاطئة افرغا خزينة العراق. و العمل على تصحيح المسار الخاطئ حان وقته منذ حين. ولكن الآن ليس وقت الشكوى و ندب الحظ. فنحن مطالبون بصد كارثة انسانية محتملة في البلد. و القطاع الصحي لن يقدر إلا على ما بوسعه في الوقت الحالي. سلاحنا الوحيد في هذه المعركة الآن و من أجل رفع بعض الثقل عن اطبائنا وممرضينا وعمال الصحة الأبطال هو أن نلتزم بصرامة المصممين على التغيير و رفض الواقع البائس، نلتزم بإجراءات التبعيد الأجتماعي و نلزم بيوتنا…إلى أن يحين موعد الحساب العسير مع من أوصلونا إلى هذه الأحوال البائسة.

وباء الكورونا ليس زهرة نرجس، فلا تدعها تملأ مروج بلدنا.


AM:05:43:25/03/2020