جائحة الإشاعات
رياض عصمت
Police inspector Rajesh Babu (C) wearing coronavirus-themed helmet speaks to a family on a motorbike at a checkpoint during a…
شرطي هندي يرتدي قناعا يشبه شكل الفيروس في محاولة لإقناع الناس في الالتزام بقرارات البقاء في المنازل

يحكى أن ملكا أراد أن يكافئ مخترع لعبة الشطرنج بعد أن شغف الناس بها. استدعى الملك المخترع للمثول في بلاطه، وعندما سأله كم من النقود الذهبية يريد مكافأة له، أجابه الرجل قائلا: "لا أريد أية نقود منكم، يا مولاي". سأله الملك بدهشة: "هل تريد، إذن، بدل المال مجوهرات؟" قال الرجل: "لا، لا أريد مجوهرات منكم أيضا، يا مولاي". دهش الملك، وسأله: "إذن، بماذا تريدني أن أكافئك؟" أجاب الرجل: "هل يعدني، مولاي، بتلبية طلبي؟" أجاب الملك بثقة ظنا منه أن الرجل سيطلب أطيانا وأراضٍ: "بكل تأكيد. اطلب وتمنى، وأنا أتعهد أن أمنحكما ستطلب".  
قال المخترع: "أريدك، يا مولاي، أن تمنحني حبة قمح في أول مربع من لوحة الشطرنج، على أن يضاعف العدد في كل مربع تالٍ حتى نهاية اللوحة". حدق الملك في مخترع الشطرنج باستغراب شديد، وقال: "ما هذا؟ أتمزح معي، أيها المواطن، حتى تطلب مني مكافأة تافهة كهذه؟" أحنى الرجل رأسه بطاعة، وقال بتواضع جم: "هذا كل ما أطلبه من جلالتكم، حبة قمح يضاعف عددها مع كل مربع حتى نهاية لوحة الشطرنج. هذا إذا رغبتم في أن تفوا بوعدكم لي، يا مولاي". 
رغم استياء الملك وانزعاجه، استدعى وزير الخزانة الملكية على الفور، ونقل إليه طلب مخترع الشطرنج ليحسب الحسبة ويجمع للرجل القمح الذي طلبه في شوال، ويصرفه من أمامه. قام وزير الخزانة بالحساب، ثم قال للملك: "إن تلبية طلبه أمرٌ مستحيل، يا مولاي". سأله الملك باستغراب: "وما وجه الاستحالة في مضاعفة حبة قمح على لوحة شطرنج؟" أجاب وزير الخزانة: "إذا ضوعف عدد حبات القمح من مربع لآخر على اللوحة، لن تكفي صوامع القمح في المملكة لتأمين طلب الرجل". 

أثبت كورونا المساواة بين البشر، وأنه لا فرق بين نظام ملكي وآخر جمهوري

عندئذٍ، أدرك الملك عبقرية المخترع، وطلب منه أن يحلَّه من وعده ويختار أية مكافأة أخرى يريد. استجاب مخترع الشطرنج مبتسما، وطلب هدية أخرى بديلة عن المال والماس، فقدمها له الملك بسخاء وعن طيب خاطر.
ريثما تتوصل المختبرات إلى لقاح لجائحة كورونا خلال زمن يتراوح بين 12 و18 شهرا ـ بل حتى إذا توصلت تلك المختبرات إلى علاج بصورة أسرع من هذا بكثير من خلال دواء سابق للملاريا أو للسارس ـ فإن مشكلة كورونا الأساسية هي سرعة الانتشار الفائقة على مبدأ حبات القمح على لوحة الشطرنج. 
ربما في تشبيه آخر، يشبه انتشار الجائحة كرة الثلج المتدحرجة من قمة جبل، إذ تكبر بشكل متسارع خلال سقوطها من الأعلى إلى أن تستقر على سفح، وتشرق الشمس ساطعة لترغمها على الذوبان. 
هاتان الصورتان الرمزيتان هما ما دفع حكومات عديد من الدول إلى اتخاذ أحد إجراءين حازمين. أولهما، حظر التجول جزئيا Lock down، كما في ولايات أميركية عديدة، أو الحجر الصحي التام Shut down، كما هو الحال في إيطاليا وفرنسا وبلدان أخرى، فضلا عن استدعاء قوات الجيش والبوليس في بعض الدول حفاظا على الأمن ومنعا للفوضى. 
أما الإجراء الثاني، فهو إغلاق الحدود البرية والجوية والبحرية تماما، ومنع السفر لحصر الجائحة والحد من انتشار العدوى ـ الأمر الذي أقدمت عليه دول عديدة في العالم. الإجراءات الصحية في البلدان المتقدمة متنوعة، بعضها عملي والآخر روحاني، لكنها لا تشمل الاعتقاد بأن نبيا أو وليا سيظهر بعد عشرات القرون ليحمي رعاياه دون غيرهم من المؤمنين بأديان أخرى على وجه الأرض.
في الواقع، يذكرنا الوضع الراهن لانتشار كوفيد-19 بتفسير مسرحية إسخيلوس "أوديب ملكا"، على أنها مأساة نجمت عن غرور أوديب المتزايد كإنسان بقدرته على مضاهاة الآلهة واعتقاده بأنه محور الكون وسيده الأوحد. يعتقد أوديب أنه نجح في تفادي نبوءة الآلهة الوثنية بقتل أبيه والاقتران بأمه، لكنه اكتشف خلال يوم واحد أنه ضحية للعبة القدر، وأنه قتل والده الحقيقي دون معرفة هويته، وارتكب زنا المحارم بإنجابه أطفالا من أمه، وأن حله للغز أبي الهول، امتلاكه الذكاء والسلطة، وثقته بقدرته المطلقة تساوي جميعها صفرا. كم يشابه مغزى هذ الأمثولة الدرامية الدرس الذي لقنه للإنسان فيروس صغير، مجهول الهوية، نشأ من أكل مزيج من لحم الخفافيش والثعابين، أو ربما من تجارب أحد المختبرات على الفيروسات الناجمة عن اختلاطها!

أعترف بأن أشد ما أدهشني خلال أزمة كورونا هو النظرية التي تداولها الإنكليز تحت عنوان "مناعة القطيع" Herd Immunization، ومفادها التخلي كليا عن الحجر الصحي والسماح لجميع الناس بممارسة نشاطاتهم الاعتيادية، تاركين الجائحة تصيب الجميع، ليموت من يموت وينجو من ينجو. بهذه الطريقة، ورغم الضحايا الجانبية، سيتم تلقيح جماعي للأغلبية العظمى من الشعب، ويكتسب من بقي حيا مناعة طبيعية إلى الأبد.
المرض ليس عيبا يتوجب إخفاؤه عن الناس أو التنصل منه. على العكس، يقتضي الواجب التنبيه المسبق للخطر المحدق لدى أول إشارة، وذلك من أجل مواجهته والحد من ضرره. من يفعل غير ذلك يشبه النعامة التي تدفن رأسها في التراب عندما تشعر بدنو الخطر، وكأنها بتجنبها رؤيته تحمي نفسها. أسوأ ما رافق جائحة كورونا هو حالة الإنكار، تزييف المعلومات والتقليل من أرقام الإصابات لطمأنة الرأي العام. 
الكذب غير جائز أمام خطر مميت، بل يشكل التجاهل والصمت جهلا وجريمة أخلاقية. أتذكرون قصة الراعي الذي اعتاد أن يكذب على أهل قريته، فينذرهم في كل مرة على سبيل اللهو أن ذئبا يهاجم القطيع؟ كان الناس يهبون لنجدة الراعي وإنقاذ القطيع، ليكتشفوا أن الراعي إنما كذب عليهم. في إحدى المرات، يهاجم القطيع بالفعل ذئب شرس، يصرخ الراعي مستنجدا بأهل قريته، لكن أحدا منهم لا يصدقه ويهب لنجدته، فيقضى الراعي حتفه بين مخالب الذئب وأنيابه. ساعدت الدول بعضها أمام الجائحة، كما فعلت الصين مع أوكرانيا وإيطاليا، وكما فعلت منظمة الصحة العالمية، ولكن من الذي سيساعد دولا أنكرت وجود أي مريض لديها؟

المرض ليس عيبا يتوجب إخفاؤه عن الناس أو التنصل منه

لا أذكر أنه انتشرت في العالم موجة شائعات كاذبة مثل التي صاحبت جائحة كورونا، لا خلال الكوليرا، ولا خلال حمى الخنازير، ولا خلال سارس، ولا خلال إيبولا. كثر مع جائحة كوفيد-19 ترويج "نظريات المؤامرة" التي استهدفت الصين أو الولايات المتحدة أو فرنسا أو سواها. يطرح كل صاحب نظرية وثائق وأدلة دامغة، لكن تضارب النظريات يوحي في نهاية المطاف بكونها مفبركة حسب أهواء سياسية مسبقة، وبعضها يعتمد على سذاجة المتلقي وعدم معرفته باللغة الصينية أو سواها، والاعتماد على الترجمة للعربية. 
وصل الأمر للادعاء بظهور خفافيش أفريقية عملاقة في لبنان. انهالت فيديوهات من كل حدب وصوب تزور الحقائق وتتلاعب بالعقول، مروجة لدعايات سياسية مغرضة وخبيثة دون أي وازع ضمير. صدق من قال: "من كثرة ما تلقيت من رسائل على الواتساب عن كورونا، بدلا من أن يرن موبايلي، صرت أخشى أن يسعل".
من ناحية أخرى، أثبت كورونا المساواة بين البشر، وأنه لا فرق بين نظام ملكي وآخر جمهوري، لا فرق بين رأسمالية وشيوعية، لا فرق بين غني وفقير. كل الأنظمة والطبقات الاجتماعية متساوية أمام الخطر. أثبت كورونا أيضا هشاشة الأنظمة أمام فيروس صغير لا يرى بالعين المجردة، وأنه رغم التقدم التكنولوجي والموارد الاقتصادية يوجد عجز حتى لدى أكبر القوى في العالم. 
صحيح أن الصين استطاعت التغلب على كورونا عبر سياسة صارمة، فتوقف انتشاره لأيام، إنما ليظهر من جديد، ونكتشف أن الصين ربحت معركة، لكنها لم تربح الحرب. أما الشعوب التي أتخمت من أصناف المعاناة، فلربما اكتسبت مناعة طبيعية جعلت الموت يهون أمام العذابات الأخرى.
يذكرني انتشار كورونا في الدول الشمولية بنكتة مفادها: كان هناك رجل يحشش في شقته حين ظهر له فجأة ملاك الموت حاملا منجله. انتفض الحشاش خائفا حين رآه، وقال له بصوت مرتجف: "من أنت؟ وما الذي جاء بك إلى هنا؟" أجاب ملاك الموت بصوت رهيب وأجش: "أنا قباض الأرواح". تنهد الحشاش ورد بارتياح: "قل هذا من الأول، يا زلمة. بشرفي، خوفتني. ظننتك مخابرات".


AM:08:31:29/03/2020