'العبّارة'.. فيلم عراقي يزداد قبحا!
مشرق عباس




شهدنا للمرة الأولى مسؤولا حكوميا عراقيا رفيعا، تتم إقالته من منصبه على خلفية سوء الإدارة؛ فالمجازر المتنقلة التي ملأت جدران العراقيين بيافطات النعي السوداء، لم تكن لتزيح مسؤولا من منصبه، لكن القضية ما زالت أكثر تعقيدا من إقالة مسؤول أو حتى محاكمته، فهي تستبطن أزمات كبرى يبدو أنها تدور في الحلقات المفرغة.

وابتداء فإن إقالة محافظ نينوى نوفل العاكوب، أخيرا، لم تأت كرد فعل مباشر على حادثة العبّارة؛ ربما أن ابتسامة غير مناسبة التقطتها الشاشات له خلال المؤتمر الصحافي لرئيس الحكومة عادل عبد المهدي هي ما أطاح به، بعد أن أثارت موجة استياء غاضبة؛ وربما أيضا أن تصريحات أطلقها بعد الحادثة حول عدم التزامه بوصفه سياسيا سنيا برأي مرجعية السيستاني هي ما فعل ذلك؛ وفي كلا الحالتين فإن الحادثة المروعة كشفت للمرة الأولى طبقة الفساد السفلية التي حولت مجموعات مسلحة تفاخرت بمشاركتها بتحرير الموصل، إلى مقاول ومستثمر في مشاريع المدينة ومنها المشروع السياحي الذي شهد المجزرة.

المحافظات لم تنتج أحزابا خاصة بها، وانتخابات حكوماتها هي نسخة من انتخابات البرلمان
بالإضافة إلى ذلك، قد تجيب الحادثة عن أسئلة معقدة ومحيرة، مثل عجز الحكومة العراقية عن المضي بتطبيق التزامات مؤتمر الكويت، الذي خصصت نسبة جيدة من منحه واستثماراته وقروضه المشروطة إلى إعمار الموصل.

وأن تسهم أرواح عشرات الضحايا بكشف النمط الإداري والسياسي والاقتصادي المشوه الذي يقود مقدرات المدن المحررة من "داعش" وكل المدن العراقية المنتكسة خدميا، وتكالب الجميع لوضع قدم في أي مشروع يقدم للإعمار، فإن تلك خدمة إضافية يجب أن لا يتم إهدارها أو التغافل عنها بطريقة تشكيل لجان التحقيق وإحالة القضايا إلى أرشيف المجازر.

وبالعودة إلى أساس المشكلة فإن محافظ نينوى المقال، لم يكن يمتلك فعليا سلطة القرار في مدينته، إذ كان قد قبل بكامل إرادته أن يكون لاعبا ثانويا لكي يضفي الشرعية على وضع مأزوم، كما قبل محافظون في مدن عراقية أخرى أداء الدور نفسه، فيما ما زال قلم التوقيع الحقيقي بيد جهات أخرى.

ليس من حل سوى القانون، ليس بطريقة تقديم أكباش الفداء الأقل تكلفة كالمحافظ المقال، بل بطرح قضية إدارة المحافظات وحقوقها المسلوبة من سلطة بغداد، ومن الأحزاب والمجموعات المسلحة العابرة للجغرافيا الإدارية، على طاولة البحث.

على البصرة أن تنتزع حقها في انتخاب سليم وفق قواعد قانونية لإدارتها المحلية، وعلى الموصل أن تفعل ذلك، وعليهما وباقي المحافظات الدفاع عن الحق في امتلاك القرار المحلي، وفي التطبيق الحرفي لـ "قانون إدارة المحافظات غير المنتظمة بإقليم" الذي يمنحها صلاحيات يجب أن تنتزع من وزارات مترهلة في بغداد وباتت اليوم تركة يتم توزيع مقدراتها لصالح اللاعبين الجدد في الحلبة السياسية العراقية.

نزع سلطات المحافظات الدستورية بدعوى عدم قدرة السلطة المركزية على التخلي عن وزاراتها، والحاجة إلى وقت غير محدود لتحديد السلطات المالية وحدود العقود المسموح للمحافظات إبرامها، والعجز عن تنويع قانون الاستثمار ليستوعب حاجة المحافظات وأولوياتها، ودفع المحافظات إلى التنازع بدلا من التكامل، كلها وغيرها هي المسؤول عن الانفلات الهائل في السلطات الاتحادية في المحافظات، والسماح لأطراف من خارج المدن أن تقرر مصائرها.

إن الدستور العراقي، فرض في نطاق تأكيده على السلطة الإدارية اللامركزية، سلسلة طويلة من القوانين غير المطبقة أو المعطلة مثل قانون المحافظات (المادة 122) وقانون الهيئة العامة لضمان حقوق الأقاليم والمحافظات غير المنتظمة في إقليم (المادة 105) ومجلس الخدمة الاتحادي (المادة 107) وقانون النفط والغاز (المادة 112) وقانون مجلس الاتحاد (المادة 65)، وقانون الهيئة العامة لمراقبة تخصيص الواردات الاتحادية (المادة 106)، كما أنه أفرد لثلاث محافظات مجتمعة أن تلغي أي تعديل دستوري لو شاءت، مثلما منحها الحق في تشكيل إقليم منفصل أو مشترك.

قد تجيب الحادثة عن أسئلة محيرة، مثل عجز الحكومة عن المضي بتطبيق التزامات مؤتمر الكويت
وكل تلك الامتيازات لا تطبّق فعليا على الأرض، فالمحافظات لم تنتج أحزابا خاصة بها، وانتخابات حكوماتها هي نسخة من انتخابات البرلمان في آلياتها وقوانينها ومواعيدها وأحزابها وطرق احتساب الأصوات فيها، وحتى شعاراتها مستنسخة.

وفي النتيجة، فإن السلطات المحلية هي تمثيل صوري في الغالب لطريقة تقاسم الأحزاب السياسية للسلطة في بغداد، ولهذا شهدنا مع انفضاض مهرجان تقاسم الحكومة الاتحادية مهرجانات ثانوية بلا مناسبة لتغيير محافظين في 6 محافظات على الأقل، ولهذا أيضا لا تتوقف الأخبار من المحافظات عن استشراء الأمراض والأزمات والفقر والعجز والكوارث.

لا يمكن أن يكون المحافظ الذي جاء إلى منصبه في مهرجان تبادل أدوار لأحزاب بغداد، مسؤولا مباشرا عن كارثة عبارة الموصل، وكل الدعوات "الفيسبوكية" لنصب مشنقة له على أساس هذه القضية ليس لها أي وزن قانوني، لكنه وغيره من المحافظين وأعضاء الحكومات المحلية مسؤولون عن قبولهم مهمة صانع المكياج لممثلين قبيحين، في فيلم يزداد قبحا.

الحرة 

AM:06:14:30/03/2019