المُساءلة والبحث للتخففِ من إرثِ العنف!
حسن المصطفى


من يضربُ برجليه في الأرض، من ديارٍ إلى أخرى، ومن يتأملُ فكرةً إلى نقد اختها، غير راكنٍ لسكونِ العقلِ الثبوتي أو وثوقيتهمن يجعلُ قولَ الأسلاف مجرد "رأي"، لا يملكُ أي مرتبة سماوية، وإنما هو من تُرابٍ وإلى تُرابٍ يعودمن يرفضُ أن يكون البحثُ رهينَ أدواتٍ مخاتلة، تُصِحِحُ وتبجلُ سيرة الماضيين، دون أن تجعلهم موضوعاتٍ للتشريح والتفكيك والنقاشات الحرة. من يكون السؤالُ محفزاً له على المغامرة، والروح الإنسانية التي تتبصرُ في تأريخِ الأمم وتجاربهم، دون أن يأخذها الحنين إلى المثالِ الأول، بل تكافحُ من أجل صناعةِ أمثولتها، وتعيش حياتها هي، لا حياةَ من ضمتهم كتبٌ وصناديق في الرفوف.

 

من يتحلى بتلك الشمائل، لن يخشى الأسماء، مهمى كانت هيبتها، ولن يقف أمامها مؤدياً فروض السمع والطاعةبالتأكيد، لنَ يتحول إلى الرجلِ الذي يحملُ حقيبة مملوءة بالحجارة والأحقاد والشتائم، لكنه لن يضع أكاليل الورود والبخور، بل سيشهرُ السؤال تلو السؤال، وسيشيرُ إلى مواضعِ الخلل دون خجل أو تردد.

 

روح الباحث هو ما يجب أن يتحلى به المثقف، أو الناقد للتراث العربي والإسلامي، في مراجعاته للنصوص الكتابية، وخصوصاً تلك المرتبطة بالتجارب الدينية، والتي أثرت عميقاً في مسيرة شرائح واسعة من المسلمين، وأسست لثقافة عنيفة، إقصائية، وصلت حد الاغتيال وإباحة قتل المخالف، لا لسبب إلا لأنه يؤمن بفكرة مختلفة أو مذهب آخر أو يعتنق رأياً خاصا!

 

الدماء التي سُفكت باسم "المقدس"، ونشوء الحركات الأصولية، وتحديداً منها المسلحة، والفوضى الطائفية التي تسببت بها، وعمليات القتلِ التي طالت مثقفين وفنانين وسياسيين وزعاماتٍ روحية وفكرية، كل هذا الغبار الممزوج بالدم، هو ما دفع الشيخ المحفوظ بن عبد الله بن بيه، على الذهاب في رحلته التي سردَ شيئاً من تفاصيلها في كتابه "ماردينابن تيمية وقتل السادات"، الصادر عن مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجية، في العام الجاري.

 

بن بيه، ومن خلال تتبعه، وجد أن فتوى "ماردينالشهيرة، التي جاءت جواباً على سؤال وجه إلى الشيخ تقي الدين أبو العباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام النميري الحراني، المشهور بابن تيمية، كانت هذه الفتوى واحدةً من أسس "السلفية الجهادية"، التي استندت لها الجماعات المسلحة في مصر، سواء في عملية اغتيال الرئيس الراحل أنور السادات، أو تكفير الحكومات، وتالياً عمليات التفجير والاغتيالات التي حصدت أرواح أبرياء طوال سنوات مريرة، ليس في مصر وحدها، بل في أنحاء متفرقة من المعمورة.

 

ذات الفتوى استخدمتها جماعات متطرفة، مثل "التكفير والهجرة"، "القاعدة"، "داعش"، وسواها. أي أن هنالك مدماكاً صلباً تأسس على إرث فقهي وعقدي وتاريخي، دون أن يجرأ كثيرٌ من العلماء من داخل المنظومة، على مساءلته ومعارضته.

 

إن مساءلة ومراجعة المتون المؤسسة للتطرف أمر مهم، لكي يتم "نزع السحر"، كما يعبر ماكس فيبر، عن تلك المرجعيات الفكرية، وتحويلها من إرثٍ علوي، لا يقاربه ناقد، إلى فكرٍ أرضيٍ، يتناوله الباحثون دون خوف من فتاوى تكفير أو تفسيق أو عمليات اغتيال معنوي أو حتى جسدي.

 

يحمدُ للشيخ المحفوظ بن بيه في كتابه، أنه تناول قضية شائكة بطريقة هادئة، وأسلوب سردي روى فيه قصة "مؤتمر ماردين"، الذي عقد العام 2010، وكان خطوة مهمة في وضع فتوى ابن تيمية، ضمن نصابها التاريخي، دون استعادتها في العصر الحالي.

إلا أن الأهم هو مسيرة البحث في أصل الفتوى وصحة خطِها، وهي المهمة التي أصرَ على استكمالها العلامة الشيخ عبد الله بن بيه، عندما لاحظ وجود خلل لغوي في نص الفتوى، دفعه إلى عمل لجنة من الباحثين المختصين لمراجعة المخطوطات الأولى ومقارنتها، للوقوف على الرسم الأقرب للصحة ومنطق اللغة. وهي العملية التي قادته إلى نتيجة مختلفة، عما كان سائداً سنوات في طبعات عدة لفتاوى ابن تيمية.

 

عملية البحث هذه، تدفعنا إلى ضرورة الإيمان بأنه علينا أن لا نكتفي بالتسليمِ للسائد، أو نقف حائرين في كيفية التعامل مع التراث، بل أهمية البحث عن أدوات علمية تحليلية، تجعلنا قادرين على نزع فتيل "الدممن هذا الإرث المتراكم، وتعطيل مفاعيله السلبية، وتجاوزه تالياً لنصنع لاهوتنا التحرري والديني الخاص بنا وبعصرنا.

إحدى مشكلات التعامل مع تراث بن تيمية، أنه وقع بين فريقين، معارضٌ شرس، أو مؤيدٌ مطلقوكلا الأسلوبين لن يقودا إلى نتائج موضوعيةكما أن هنالك بعض المحاولات سعت لأن تقرأ هذا التراث بطريقة تدعي الحداثة والموضوعية، إلا أنها وقعت في فخ إعادة إنتاج نسخةٍ لأسميها "معصرنة" تشوبها الكثير من الثغرات، لأنها انطلقت من رؤية فيها شيء من التبجيل وإن كان غير المعلن، وانحياز مذهبي لا بالمعنى الديني وإنما الاجتماعي، ينتصر لطرفٍ على آخر، مؤيداً سرديةً قبالةَ أخرى، لا من منطلق أكاديمي صلب، بل من وجهة نظر سياسية، تقوم على إبراز "السنية السياسيةفي قبال "الشيعية السياسية"، وهي برأيي محاولة فيها الكثير من المخاطر، لأن المطلوب ليس إعادة الاحتفاء بفكر ابن تيمية أو سواه من السلف لأي طريقة أو مذهبٍ انتموا، وإنما إنتاج معرفة حديثة، تنتصر لقيم الاجتهاد وحرية الفكر والتنوع والاختلاف، وهي القيم التي سعى "مؤتمر ماردينللتأكيد عليها، وجاءت من بعدها نصوص مثل وثيقة "حلف الفضول الجديدلكي تكرسها بشكل أكثر تفصيلاً ووضوحاً، كونها خرجت من عباءة الديني الخاص، إلى المشترك الإنساني العام.

 

 -al-aalem



AM:06:56:25/08/2020