تربية الاستبداد وتربية الحرية
سيف الدين عبد الفتاح


محطة التربية في التنظير الشبكي عند عبد الرحمن الكواكبي (1855 - 1902) محطة جوهرية؛ التربية فيها وعمليات التنشئة ليست بعيدة عن الأخلاق والقيم؛ فالتربية الحقة والتنشئة السوية تكونان في حالة تعاكس، وربما تناقض، مع الاستبداد وأخلاقه وأنماط تربيته السالبة الفاسدة والمفسدة، ذلك أن الاستعدادات والقابليات تنمو حيث تتغذّى بالصلاح أو الفساد.

وإذا كانت التربية بانية ناهضة، فإن الاستبداد ناقض ومقوض وهدّام؛ إذ "خلق اللهُ في الإنسان استعداداً للصلاح واستعداداً للفساد، فأبواه يصلحانه، وأبواه يفسدانه؛ أي إنَّ التربية تربو باستعداده جسماً ونفساً وعقلاً، إنْ خيراً فخير، وإنْ شراً فشرّ. وقد سبق أنَّ الاستبداد المشؤوم يؤثِّر على الأجسام فيورثها الأسقام، ويسطو على النفوس، فيفسد الأخلاق، ويضغط على العقول فيمنع نماءها بالعلم. بناءً عليه؛ تكون التربية والاستبداد عاملين متعاكسين في النتائج، فكلُّ ما تبنيه التربية مع ضعفها يهدمه الاستبداد بقوته، وهل يتمُّ بناءٌ وراءه هاد؟".. فالاستبداد "... ريحٌ صرصر فيه إعصار يجهل الإنسان كلّ ساعة شأنه، وهو مُفسِدٌ للدين في أهمِّ قسميه؛ أي الأخلاق، أما العبادات منه فلا يمسّها لأنها تلائمه أكثر.

ولهذا تبقى الأديان في الأمم المأسورة عبارة عن عبادات مجرّدة صارت عادات، فلا تفيد في تطهير النفوس شيئاً، ولا تنهى عن فحشاء ولا منكر لفقد الإخلاص فيها تبعاً لفقده في النفوس، التي ألفت أن تتلجأ وتتلوّى بين يدي سطوة الاستبداد في زوايا الكذب والرّياء والخداع والنفاق، ولهذا لا يُستغرب في الأسير الأليف تلك الحال؛ أي الرّياء، أن يستعمله أيضاً مع ربِّه، ومع أبيه وأمِّه ومع قومه وجنسه، حتى ومع نفسه"، فالتربية بنيان وعمران والاستبداد خراب وهدم وطغيان. 

درس التربية لا يقل أهمية عن درس القيم والأخلاق في مواجهة شبكة الفساد والاستبداد والاستعباد والطغيان

شتان بين نمطين للتربية؛ تربية العدل والحرية وتربية أسرى الاستبداد، فبينما تنتج تلك شخصية عاملة ناشطة فاعلة تنتج تربية الأسر الاستبدادي، إن صح هذا التعبير، شخصيات خامدة خاملة خائبة حائرة؛ غافلة، جاهلة بأسباب شقائها وبؤسها؛ فتعلقها على أسباب موهومة، فيمرر حال الاستبداد ويزور على المسؤولية الحقيقية عن سوء الأحوال وبؤس العاقبة والمآل الحكومات المنتظمة هي التي تتولّى ملاحظة تسهيل تربية الأمة.

وهكذا تلاحظ كلَّ شؤون المرء؛ ولكن، من بعيد، كي لا تخلّ بحريته واستقلاله الشخصي، فلا تقرب منه إلا إذا جنى جرماً لتعاقبه، أو مات لتواريه.. يعيش الإنسان في ظلِّ العدالة والحرية نشيطاً على العمل.. يعيش العامل ناعم البال يسرُّه النجاح ولا تقبضه الخيبة، ..أما أسير الاستبداد، فيعيش خاملاً خامداً ضائع القصد، حائراً لا يدري كيف يميت ساعاته وأوقاته ويدرج أيامه وأعوامه، كأنَّه حريصٌ على بلوغ أجله ليستتر تحت التراب.

ويخطئ، والله من يظنُّ أنَّ أكثر الأسراء لا سيما منهم الفقراء لا يشعرون بآلام الأسر. مستدلاً بأنهم لو كانوا يشعرون لبادروا إلى إزالته، والحقيقة في ذلك أنهم يشعرون بأكثر الآلام ولكنهم لا يدركون ما هو سببها، ومن أين جاءتهم؟ .. ولا يدري أيضاً ما السبب، فيغضب على ما يسمّيه سعداً أو حظاً أو طالعاً أو قدراً؛ .. وكلُّ هذه المسميات المثبطات تهون عند ذلك السمّ القاتل، الذي يحوّل الأذهان عن التماس معرفة سبب الشقاء، فيرفع المسؤولية عن المستبدّين، ويلقيها على عاتق القضاء والقدر، بل على عاتق الأُسراء المساكين أنفسهم...نعم؛ ما أبعد الأسراء عن الاستعداد لقبول التربية، وهي قصر النظر على المحاسن والعِبَر، وقصر السمع على الفوائد والحِكَم، وتعويد اللسان على قول الخير، وتعويد اليد على الإتقان، وتكبير النفس عن السفاسف، وتكبير الوجدان عن نصرة الباطل، ورعاية الترتيب في الشؤون، ورعاية التوفير في الوقت والمال. والاندفاع بالكلّية لحفظ الشرف، لحفظ الحقوق، ولحماية الدين، لحماية الناموس، ولحبِّ الوطن، لحبِّ العائلة، ولإعانة العلم، لإعانة الضعيف، ولاحتقار الظالمين، لاحتقار الحياة.
على غير ذلك مما لا ينبت إلا في أرض العدل، تحت سماء الحرية، في رياض التربيتين العائلية والقومية". 

لا تنتج مآلات العملية التربوية في كنف الاستبداد إلا أسرى أو عبيداً؛ وإمعات وأصفاراً لا فاعلية لها ولا تأثير

لا تنتج مآلات العملية التربوية في كنف الاستبداد إلا أسرى أو عبيدا؛ وإمعات وأصفارا لا فاعلية لها ولا تأثير، وهو ما ينعكس على أسرهم وأولادهم؛ فتُحكم حلقات الدائرة الاستبدادية، لتضمن تراكمها واستمرارها وتواتر قابلياتها في الاستعباد وظلال الاستبداد من ضيق وتضييق".. وهكذا يعيش الأسير في حين يكون نسمة في ضيق وضغط، يهرول ما بين عتبة همٍّ ووادي غمٍّ، يودِّع سقماً ويستقبل سقماً إلى أن يفوز بنعمة الموت، مضيعاً دنياه مع آخرته، فيموت غير آسف ولا مأسوف عليه. ومن كان وجوده في الوجود بهذه الصورة، وهي الفناء في المستبدين، حقَّ له أن لا يشعر بوظيفة شخصية فضلاً عن وظيفة اجتماعية.. قوانين حياة الأسير هي مقتضيات الشؤون المحيطة به، التي تضطره لأن يطبق إحساساته عليها، ويدبِّر نفسه على موجبها، وذلك نحو مقابلة التجبُّر عليه بالتذلل والتصاغر، وتعديل الشدة عليه بالتلاين والمطاوعة، ..ثمَّ إنَّ عبيد السلطان التي لا حدود لها هم غير مالكين أنفسهم، ولا هم آمنون على أنَّهم يربّون أولادهم لهم. بل هم يربّون أنعاماً للمستبدّين، وأعواناً لهم عليهم.

وفي الحقيقة، إنَّ الأولاد في عهد الاستبداد، هم سلاسل من حديد يرتبط بها الآباء على أوتاد الظلم والهوان والخوف والتضييق.. ثمَّ هو يتولى التضييق على نفسه بأطواق الجهل وقيود الخوف، ويتولى المستبدّون التضييق على عقله ولسانه وعمله وأمله. ومن غريب الأحوال أنَّ الأُسراء يبغضون المستبدَّ، ولا يقوون على استعمالهم معه البأس الطبيعي الموجود في الإنسان، إذا غضب، فيصرفون بأسهم في وجهة أخرى ظلماً: فيُعادون من بينهم فئةً مستضعفةً، أو الغرباء، أو يظلمون نساءهم ونحو ذلك. وقد اتَّضح مما تقدَّم أنَّ التربية غير مقصودة، ولا مقدورة في ظلال الاستبداد إلا ما قد يكون بالتخويف من القوة القاهرة، وهذا النوع يستلزم انخلاع القلوب لا تزكية النفوس". والمحصلة التربوية لتربية الاستبداد والاستعباد، والتربية السوية في الأمم المنتظمة القائمة على قواعد من العدل والحرية؛ تنتج في الحالة الاستبدادية خراب العمران وشبكة علاقات من الظلم والطغيان".. الاستبداد يُضطرُّ النّاس إلى استباحة الكذب والتحيُّل والخداع والنِّفاق والتذلل. وإلى مراغمة الحسِّ وإماتة النفس ونبذ الجدّ وترك العمل، إلى آخره.

وينتج من ذلك أنَّ الاستبداد المشؤوم هو يتولّى بطبعه تربية الناس على هذه الخصال الملعونة. بناءً عليه، يرى الآباء أنَّ تعبهم في تربية الأبناء التربية الأولى على غير ذلك لا بدَّ أنْ يذهب عبثاً تحت أرجل تربية الاستبداد، كما ذهبت قبلها تربية آبائهم لهم، أو تربية غيرهم لأبنائهم سدىً".. بينما التربية السوية وفق القواعد المرعية والمسالك التربوية المعتبرة تنتج أنماطا على شاكلتها فتمثل للحالة الجمعية حصانة في مواجهة الاستبداد ".. إنَّ التربية التي هي ضالّة الأمم، وفقدها هي المصيبة العظيمة، التي هي المسألة الاجتماعية؛ حيث الإنسان يكون إنساناً بتربيته، وكما يكون الآباء يكون الأبناء، وكما تكون الأفراد تكون الأمّة، والتربية المطلوبة هي التربية المرتَّبة على إعداد العقل للتمييز، ثمَّ على حسن التفهيم والإقناع، ثمَّ على تقوية الهمّة والعزيمة، ثمَّ على التمرين والتعويد، ثمَّ على حسن القدوة والمثال، ثمَّ على المواظبة والإتقان، ثمَّ على التوسّط والاعتدال.

وأن تكون تلكما التربيتان مصحوبتين أيضاً بتربية النفس على معرفة خالقها ومراقبته والخوف منه، فإذا كان لا مطمع في التربية العامّة على هذه الأصول بمانع طبيعة الاستبداد، فلا يكون لعقلاء المبتلين به إلا أن يسعوا أولاً وراء إزالة المانع الضاغط على هذه العقول، ثمَّ بعد ذلك يعتنون بالتربية؛ حيث يمكنهم حينئذٍ أن ينالوها على توالي البطون...". 

درس التربية لا يقل أهمية عن درس القيم والأخلاق في مواجهة شبكة الفساد والاستبداد والاستعباد والطغيان وإقامة مجتمعات الحرية والعدل والعمران.


-alaraby
AM:03:52:29/08/2020