جريمة صلاح الدين والبيئة الحاضنة
أرنست خوري


أصبحت مملّة حكاية رئيس الحكومة العراقية، مصطفى الكاظمي، في سياحة العزاء التي يحترفها منذ تسلمه منصبه قبل سبعة أشهر.

عند كل مرة تُرتكب فيها جريمة، وهي غالباً ما تكون بحق منتفضين ومتظاهرين ومعارضين، في بغداد وفي مناطق الجنوب، يحضر موكب الرجل على وجه السرعة بوعود المحاسبة وإحقاق العدالة، وقد أضاف إليها يوم الأحد الماضي تعهدات بـ"عدم العودة إلى مرحلة التناحر الطائفي"، وذلك في منطقة الفرحاتية جنوبي محافظة صلاح الدين. هناك، عُثِر يوم السبت على جثث 12 عراقياً، بينهم أربعة دون سن الثامنة عشرة، من أصل 28 مواطناً اختُطِفوا لأسباب طائفية مثلما توحي به تغريدة رئيس الوزراء نفسه. 

القصة صارت كليشيهاً في العراق بالنسخة التي تكتب يومياتها المليشيات التابعة بكل تفاصيلها للحكم الإيراني: هجمت خلية من تنظيم "داعش" على مليشيا "عصائب أهل الحق"، إحدى أشرس فصائل الحشد الشعبي "الولائية" التي يتقاضى عناصرها رواتبهم من خزينة الدولة بصفتهم مليشيا حكومية تسيطر على كل ما يتعلق بالمنطقة ذات الغالبية من العرب السنّة.

قُتل أحد مسلحي المليشيا، فجاء الثأر على هيئة اختطاف 28 مدنياً، عُثر على جثث 12 منهم، والآخرون لم يظهروا بعد، لا أحياءً ولا جثثاً. هو مشهد مكرر من عراق ما بعد 2014 الذي يعرف تفاصيله الأمنية مصطفى الكاظمي نفسه، بصفته رئيس جهاز المخابرات الوطني العراقي منذ يونيو/ حزيران 2016، أي في عزّ سنوات الحرب ضد "داعش".

في هذا العراق، مثلما هو حال سائر الحواضر العربية الواقعة في قبضة المليشيات الإيرانية، يُمنع تعيين الفعل الطائفي بوصفه طائفياً، لكن يُسمح بارتكابه، لا بل تغدو ممارسته سياسة رسمية. ممنوع القول إن هناك جريمة طائفية يومية ضحاياها يُقتلون ويُسجنون ويُهجرون ويُعذبون وتُسلب ممتلكاتهم بـ"ذنب" انتمائهم إلى مذهب معين، ولو قيل ذلك وعلا صوت يوصّف الواقع انطلاقاً من رفضه، يصبح صاحبه داعشياً طائفياً يشكل "بيئة حاضنة" للتنظيم الإرهابي. 

ومفهوم "البيئة الحاضنة" يكاد يكون اختراعاً إيرانياً يتوالى فصولاً من سورية إلى لبنان فالعراق واليمن. كل مطلب بنزع سلاح حزب الله ليس صاحبه سوى "بيئة حاضنة للإرهاب بشقيه التكفيري والصهيوني" في لبنان. كل من يعادي انقلاب الحوثيين مجرد عميل إخواني أو بيئة حاضنة لهم على أقل تقدير، ليس عليه إلا أن يعدّ أيامه الباقية. أما في سورية، فما على السائلين عن مصير الساعين إلى كسر الدولة الطائفية ومرشدها، إلا البحث عنهم وعن بيئتهم الحاضنة تحت الأنقاض وفي مراكز التعذيب، أو في المنافي بأفضل الأحوال.

وفي العراق، حرم سكان المحافظات الشمالية والغربية أنفسهم المشاركة في انتفاضة بغداد والنجف وكربلاء والبصرة وبقية مناطق الوسط والجنوب، لأنهم فهموا جيداً، وعن خبرة طويلة، فلسفة "البيئة الحاضنة" تلك: أي مشاركة لمنطقة ذات لون "سنّي" ستُنهي الحراك الذي اتخذ لنفسه شعار "أريد وطناً" مثلما أنهى نوري المالكي اعتصامات الرمادي والفلوجة والموصل صيف 2014. هكذا ارتأى هؤلاء، مرغمين، تحييد أنفسهم في المناطق الصافية مذهبياً والمحاصرة من المليشيات، وإن شاركوا بفعالية في تظاهرات بغداد التي لا تزال، رغم كل تحوّلاتها، تحتضن كل أطياف المجتمع العراقي. 

تجربة البلدان الأربعة الواقعة تحت الحكم الإيراني تفيد بأنه عندما يكون لـ"داعش" أصدقاء من هذا النوع، فهو لن يحتاج إلى أعداء. حكمة قد يكون مصطفى الكاظمي أفضل من أدركها ووثقها في ملفات مخابراته، ولن تجدي لتغييرها كلمات العزاء التي ينطق بها الرجل في المجالس، ولا إيحاءاته بأن إعادة افتعال توازن ما بين إيران وأميركا والسعودية يمكنه تغيير الواقع العراقي المختلّ. 

في هذه الأيام التشرينية، الرد المجدي الوحيد على جريمة صلاح الدين قد يأتي من البصرة وذي قار وكربلاء، عبر تسمية شعبية للقاتل باسمه، وبإحياء شعار "أريد وطناً"، أي دولة حقيقية، طبيعية، لجميع العراقيين، وإلا فإن الشعور بالمظلومية لدى طيف عراقي واسع سيتعاظم، وسيتنافس الخبثاء على طرح السؤال الأبله: لماذا يعود "داعش"؟

-alaraby



AM:04:20:21/10/2020