مكرم رباح
خلال الأسبوع الفائت، أصدر رئيس مجلس الوزراء نواف سلام "مُذكرات وَجَهها للأجهزة الأمنية والعسكرية"، أكد فيها "وجوب إلغاء وثائق الاتصال ولوائح الإخضاع بشكل فوري، والاستعاضة عنها بمراجعة القضاء المختص، احتراماً للحرية الشخصية، وصوناً للكرامة الإنسانية، وضماناً لعدم المَسّ بحقوق المواطنين من خلال توقيفات اعتباطية أو تعسفية".
صَدَر هذا التعميم بعد أيام فقط من مداهمة منزل الأكاديمي والصحافي وسام سعادة، من قِبل أحد الأجهزة الأمنية، بأسلوب عشوائي ومُستَفِز كالمُعتاد. ذكّرت هذه الحادثة اللبنانيين بأن الدولة البوليسية، حتى وإن ارتدت ثوباً باهتاً، لا تزال تتلصص في الظل، مترصدة اللحظة المناسبة للانقضاض على خصوصيتهم ووَهمهم بالحرية والديمقراطية.
ظاهرة "الوثائق الأمنية" و"مذكرات الإخضاع" تشبه الأمراض الجنسية الكامنة، التي يظن المرء أنه شُفي منها، قبل أن تعود لتظهر مجدداً. هذه التدابير الأمنية والإدارية تعود بجذورها إلى زمن الاحتلال السوري، لا بل إلى الحقبة الفرنسية التي رسّخت "النظام الأمني" كركيزة لإدارة البلاد.
تلك المذكرات تصدر بناءً على شُبهات غير واقعية، وتَفرض تدابير تُقَوض حرية الأفراد، كمنع السفر أو الحصول على جواز سفر، أو حتى استقدام عاملة منزلية، وقد تُستغل لنصب كمائن، كما حدث لي شخصياً في خريف 2020، وفي العام الماضي عندما حاول مفوض الحكومة لدى المحكمة العسكرية تلفيق تهمة "العمالة" لي بسبب تصريحات صحافية ضد "حزب الله" وحربه المفتعلة.
لا شك أن مذكرة رئيس الحكومة تُمثّل خطوة إيجابية، لكنها تبقى منقوصة. إذ إن وجود هذه المذكرات بحد ذاته يشكّل جريمة، وبالتالي لا يكفي فقط تذكير الضباط والعناصر الأمنية بوجوب احترام القوانين والدستور، بل ينبغي أيضاً محاسبة كل من يُصدر مثل هذه التدابير أو يُنفذها تماماً كما يُعاقَب من يرتكب جريمة قتل أو سرقة أو تَعدّ على الملكية الخاصة؛ كما ويجب معاقبة الضابط أو المسؤول الأمني الذي يحتجز حرية إنسان بدون مسوغ قانوني واضح. بالأحرى، يجب أن يَخضع من يُصدر مذكرة الإخضاع للمساءلة العلنية، ويُحال للمحاسبة كأُنْمُوذَج يَقتدي به عناصر الجهاز ذات العلاقة والرأي العام على حدٍ سواء.
خطوة سلام ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة، ضمن مسار طويل من التذكير الصُوَري بدولة القانون، في مواجهة ما يُعرف بـ"الدولة العميقة" التي تسخر من مفاهيم العدالة. في الدول المتقدمة، يُعاقَب "ابن(ة) الدولة" بشدة لأنه مؤتَمَن على صَون العدالة. أما في لبنان، فكثيراً ما يُكافأ الضابط المخالف بترقية إذا ما حظي برضى "المرجعية الطائفية" أو "الحزب الراعي"، حتى لو كان متورطاً في تعذيب أو في سرقة العصر.
مذكرات الإخضاع، وسواها من "البدع القانونية" اللبنانية، ليست سوى أعراض مرض متجذّر في بنية دولة تعامل الدستور كوجهة نظر، وهي قابلة للتأويل بحسب مصالح أمراء الطوائف وأذرعهم التنفيذية. أما المواطن، الذي يطمح لدولة قانون، فيُطالَب بها إلا أنه إن احتاج لأي خدمات حكومية يجد نفسه بمواجهة فساد متجذر يمنع عنه حقه أو يدفعه للبحث عن "واسطة" أو خدمة زبائنية، يدفع ثمنها مباشرة ومن ودائعه المصرفية، أو من دمه في انفجار مرفأ، أو من كوارث مقبلة لم تَحدث بعد.
المصدر/ العربية