أنا صحافية سوريّة أكتبُ باسمٍ مستعار : إذا اختفيتُ يوماً اتّصلْ بهذا الرقم





شعرتُ عند نشر مادتي الأولى بأنّني مراقبة وقد أتعرض للمساءلة في أيّ لحظة، استمرَّ الشعور ذاته مع المقالات اللاحقة، مترافقاً مع بعض الكوابيس عن الأمن السوريّ وأقبيته، لحظة الاعتقال، الهرب والملاحقة والعجز عن الاختباء.
لا حريّة للصحافة في سوريا، ولا للكتابة ولا لأيّ نوع من الفنون، انتقادُ أيّ سلطة أو وزير أو مسؤول يعني الاعتقال أو المساءلة. قد يتسبب منشور ينتقد مسؤولاً أو يسخر منه على "فايسبوك” في اعتقال صاحبه، ويصبح الأمر أكثر خطورة حين يكون كاتب المنشور صحافياً.

الخيار الوحيد لصحافيّ يعيش داخل سوريا أو خارجها، ويخشى على عائلته في الداخل، هو الكتابة تحت اسم مستعار، الاسم المستعار يعني أنك لن تعرف صاحب المقال، لا جنسه ولا عمره، قد يكون صحافياً باسم فتاة أو العكس، في الثلاثينات أو في الخمسين من عمره. ليس من الصعب الاستدلال على الصحافيين السوريين أصحاب الأسماء المستعارة، يكفي البحث عن اسم الكاتب لتدرك ألّا صورة له أو حساب على صفحات التواصل الاجتماعي، لكنه بالتأكيد موجود في مكان ما في العالم.

المشهدُ الأكثرُ رعباً في سوريا
كان ليبدو يوماً عادياً، أذهب فيه لشراء الخضراوات من سوقٍ شعبيّ قريب، لولا أن جلبةً جعلتني أتوقف، رجالٌ من الأمن السوريّ بلباسهم المدني، يقتادون شاباً بعدما كبّلوا يديه إلى الخلف، وأجبروه على إحناء رأسه للأسفل بينما سارعوا ووضعوه في سيارةٍ تقف في أول الشارع، إنّه المشهد الأكثر رعباً في سوريا.

توقفتُ مذعورة، أفكر بالعودة إلى أدراجي قبل أن يكتشفوا وجودي، ربما شعر كلّ من هناك بالرعب ذاته. خوفي كان مضاعفاً لأن لدى الأمن سبباً لاعتقالي، فأنا صحافية، أكتب ضد النظام السوريّ في أحد المواقع الصحافية تحت اسم مستعار، ترددتُ في العودة، ربما يبدو الخوف عليّ ويُكشَفُ أمري. في النهاية تذكرتُ أنهم لمْ يأتوا لأجلي ولو أرادوا اعتقالي لقدموا إلى منزلي أو اعتقلوني على أحد الحواجز حيث "تفييش” الهويات الشخصية.

السؤال الأول الذي يطرحه الصحافي على نفسه قبل الكتابة ضد النظام السوريّ باسم مستعار: "هل يستحق الأمر فعلاً المخاطرة؟”

سألتُ أحد الباعة الذين يراقبون المشهد، بهدوءٍ مصطنع: "ما القصّة؟”، فردَّ بثقة: "الأمن أجا وعفط (اعتقل) شب”، سألته بالنبرة ذاتها، "لماذا؟”، فردَّ: "أبصر شو عامل”، عدت إلى المنزل وجملة البائع تتردد في رأسي: "أبصر شو عامل”، ماذا يفعل السوريون حقاً ليتم اعتقالهم وليعيشوا هذا الرعب في كلّ يوم وعلى كلّ نقطة تفتيش؟ ماذا يفعل السوريون لتبقى عباراتُ "عبّوه بالطبون”، "عفطوه”، "أخذوه ع بيت خالتو”، "الحيطان إلها آذان”، جملاً مرعبة وفيها من المجاز ما يجعل القلوب تدقُّ بسرعة، مجازٌ يعني قضبان الحديد والتعذيب والدولاب والموت في الأقبية المظلمة.

فكرتُ بالاعتقال طوال اليوم والخوف يمزّق قلبي، يجعلني أتأكد مرة بعد أخرى أنّي بمأمن، عائدةً إلى حاسوبي للتأكد من حذفي جميع المواد بعد إرسالها وتسجيل الخروج من بريدي الإلكتروني وإزالته، فكرتُ بجميع الصحافيين الذين مثلي، الخوف الذي نشعر به كلّما كتبنا الاسم المستعار وأرسلنا المواد من بريد إلكتروني وهميّ، فلا مجال للمخاطرة. يتجنب صحافيو الأسماء المستعارة التحدث عبر وسائل التواصل الاجتماعي مع مدرائهم أو محرري المواقع التي يعملون فيها، فلا ضمانات أكيدة على أن الأمن السوريّ لم يصل إليها، ومع قصص تنتشر بين الصحافيين عن أصدقاء اعتقلهم الأمن وحين أنكروا التهم، فتحوا لهم صوراً تؤكد تلك المحادثات، يبدو من الأجدى تجنب أنواع التواصل هذه.


حريّة الاسم المستعار
لم يكن خيار الاسم المستعار مطروحاً قبل سنوات، احتجتُ المزيد من القوّة لأبدأ، ومديراً أثقّ به، لم تكن البداية سهلة، ولأنّني أعرف شكل الاعتقال كان الرعب أكبر. أتذكر جيداً عمي بعد خروجه من المعتقل، أتذكر أظافره المتآكلة بفعل التعذيب، وجسمه النحيل بعد فقدانه نحو 50 كلغ من وزنه، وشكل السياط على جسده. لا يمكن أن تغيب صورته وهو مكبل بلحية طالت بعد نحو سنة من الاعتقال ووجهٍ شَحُبَ وهزُلَ حتى بات التعرف إليه صعباً، لا يمكنني تجاوز قصص التعذيب التي أخبرني عنها عند كتابة كلّ مادة جديدة. 

تعليقه مقلوباً من السقف، الركل، دخول الحمام لدقيقة واحدة، اتخاذ بلاطة واحدة للجلوس وحين النوم يقف نصف المعتقلين لينام النصف الآخر، غَمْرُ رأسه بالماء، ووضعه على الدولاب، الشتائم، تهديده بنيّة عناصر الأمن باغتصاب أخواته، كلّها صور تحضر بقوة مع كلّ مقال، وصوت عمي يرتجف في الخلفية.

يغدو سؤال: "هل حقاً يستحق الأمر المخاطرة؟”، جواباً بحد ذاته، نعم يستحق المخاطرة واكتشاف حريتك قبل كلّ شيء، والخروج من الحدود التي عمل النظام على وضعنا داخلها منذ يومنا الأول، هو الجواب لسنوات طويلة من الديكتاتورية والتعذيب والقتل والتهجير.

السؤال الأول الذي يطرحه الصحافي على نفسه قبل الكتابة ضد النظام السوريّ باسم مستعار: "هل يستحق الأمر فعلاً المخاطرة؟”، والمخاطرة تعني ما عاشه عمي من تعذيب وقد تعني للصحافيات الاغتصاب داخل المعتقلات، والتهديد بأذيّة أفراد العائلة والموت، دارتْ كلّ هذه الأفكار في رأسي لمجرد التفكير في الكتابة. شعرتُ عند نشر مادتي الأولى بأنّني مراقبة وقد أتعرض للمساءلة في أيّ لحظة، استمرَّ الشعور ذاته مع المقالات اللاحقة، مترافقاً مع بعض الكوابيس عن الأمن السوريّ وأقبيته، لحظة الاعتقال، الهرب والملاحقة والعجز عن الاختباء. مع الوقت صار شعور الخوف يقلُّ لكن القلق والحذر سيرافقان أيَّ صحافي باسم مستعار على الدوام ولن يتوقف سؤال: "هل يستحق الأمر فعلاً المخاطرة؟، مع كلّ خبرٍ عن اعتقال صحافي سوريّ أو موت معتقل تحت التعذيب.

أكثر ما أعانيه خلال الكتابة باسم مستعار هو غول النظام الذي يرافقني، الشعور بأنّني مراقبة و”أتطاول” على شخصيات قادرة على تدمير حياتي إن شاءت. مجرد فكرة الكتابة عن سلطة يُحرَّمُ الاقتراب منها يجعل الأمر تحديّاً، أحياناً يكون الخوف أكبر من قدرتي على الكتابة، وفي أحيانٍ أخرى أملك من الإرادة والقوة ما يجعل غول الخوف يتبدد. زرَع النظام السوريّ في كلّ سوري هذه الخشية والخوف منه حتى بينه وبين نفسه، وفي كلّ مرة رفعتُ فيها صوتَ المعارضة أكثر، شعرتُ بخوف أكبر وبتحدٍ غريب، فلا أحد يعرفني في النهاية، لكنه تحدّ يتعلق بي وحدي، هل أتوقف يوماً عن الخوف من النظام بيني وبين نفسي؟ وإن اعتُقلت هل سأندم؟ هل يستحق الأمر فعلاً المخاطرة؟ لكنني أريد التصديق بأنّني حرّة وأنني سأتمكن يوماً من الكتابة باسمي الحقيقيّ من دون أن أخاف على عائلتي ونفسي.

إذا اعتُقلت يوماً…
أدواتك كصحافي يكتب باسم مستعار ضعيفة أمام الديكتاتورية: بريدٌ وهميّ، مقالٌ صحافي تحذفه عن حاسوبك فور إرساله لمديرك، واسمٌ مستعار، هذا كلّ ما لديك في وجه واحدٍ من أكثر الأنظمة الديكتاتورية في العالم.

هل من أدوات أمانٍ أخرى؟ 

نعم، هناك أدوات تتخيل أنها ستشعرك بمزيد من الأمان، كأن تسأل ابن عمكَ إن كان يعرف أشخاصاً يستطيعون تخليصك لو اعتُقلتْ كما ساعدوا عمّك سابقاً مقابل مبلغ من المال، فيرد بنعم، ثم تذهب إلى صديق يعمل في الأمن العسكري مرغماً وتقول له بكلّ ببساطة: "إذا حصل واعتقلني الأمن في يوم ما، هل تستطيع مساعدتي؟” فيردّ: "بحسب الموقف، إنما أعتقد أنني أستطيع”، هكذا تعطي لأخيك أرقام هواتف شخصين ليسا متأكدين إن كانا قادرين على إنقاذك وتقول له: "إذا اختفيت يوماً، اتصل بهذين الرقمين”.

أريد أن أكون بأمان وهذا كل ما أملكه في بلد تحكمه الديكتاتورية ونظامُ كمِّ الأفواه، وحين تتذوق طعم حرية الكتابة لن يكون التوقف سهلاً، ربما سيرافقني الخوف على الدوام، إننا أجيال كبُرت وهي لا تعلم شيئاً عن السياسة والأنظمة. كبرنا ونحن نسمع قصصاً مخيفة عن معتقلين أمضوا حياتهم في السجون، يصلون كلّ يومٍ إلى حبل المشنقة ثم يغير الديكتاتور رأيه، إنه أقسى أنواع التعذيب، أن تذهب كلّ يوم إلى حبل المشنقة وأنت متيقن من الموت، ومن ثم يمنحونك يوماً إضافياً من الحياة.

على رغم ذلك هناك حريّة لذيذة مع كلّ فكرة ومادة تكتمل، حريّة خشيتُ الاقتراب منها طويلاً، قولُ الحقيقة، عن أفعال النظام وأذرعه والحياة الشاقة التي يعيشها السوريون تحت مظلّة الخوف والرعب، هذه الانتصارات الصغيرة التي يحلم بها كلّ سوري يخفِضُ صوته حين الكلام عن الرئيس أو الجهاز الأمني والمعتقلات، انتصارات باتت على شكل كلمات، هكذا إذاً يعيش الإنسان الحرّ، يستطيع قول ما يجول في خاطره بلا خوف أو اعتقال أو موت، ولكن هل كان لينجح الأمر من دون اسم مستعار؟

في النهاية يغدو سؤال: "هل حقاً يستحق الأمر المخاطرة؟”، جواباً بحد ذاته، نعم يستحق المخاطرة واكتشاف حريتك قبل كلّ شيء، والخروج من الحدود التي عمل النظام على وضعنا داخلها منذ يومنا الأول، هو الجواب لسنوات طويلة من الديكتاتورية والتعذيب والقتل والتهجير.

-daraj



AM:01:58:07/01/2021




428 عدد قراءة