قامة عراقية أخرى تترجّل في الغربة





العلامة المؤرخ والأكاديمي الكردي كمال مظهر أحمد

 قامة عراقية أخرى تترجّل في الغربة

سعد ناجي جواد

كلما افجع بفقدان شخص عزيز على قلبي واجزع لخبر انتقاله الى جنات الخلد اشعر كما قال شاعر العرب الاكبر ابو الطيب المتنبي

كَأَنَّ المَوتَ لَم يَفجَع بِنَفسٍ

وَلَم يَخطُر لِمَخلوقٍ بِبالِ

وهذا البيت من احدى روائعه التي يقول في مطلعها

نُعِدُّ المَشرَفِيَّةَ وَالعَوالي

وَتَقتُلُنا المَنونُ بِلا قِتالِ

نعم يبدو ان المنون بدأت تقتلنا بلا قتال، وفي غربة فرضت علينا وجائحة حرمتنا حتى من حضور تشييع او مجالس الفاتحة لاحبائنا وأقرب الناس الى قلوبنا.

ان فقدان عالم كبير وأستاذ جليل وأخ قريب الى النفس وانسان تتركز فيه كل معاني الشهامة والأخلاق العالية كالأخ الدكتور كمال مظهر احمد ليس بالأمر الهين على النفس بعد اكثر من أربعين عاما من العلاقة الأخوية.

التقيته لأول مرة في عام 1973 عندما كنت اعد رسالتي للدكتوراة عن المسالة الكردية. وكنت قد عدت في ذلك العام الى العراق لجمع المعلومات وإجراء المقابلات، ونصحني صديق لوالدي ان اذهب للقاء الدكتور كمال مظهر احمد في المجمع العلمي الكردي، الذي تأسس بعد اتفاقية آذار 1970. وكان الدكتور كمال هو رئيس هذا المجمع. استقبلني وأكرمني وطلب من احد مساعديه (المرحوم حسبن فيض الله الجاف)، ان يوفر لي كل ما احتاجه وان لا يبخل علي بشيء. وبالفعل وفر لي الاخ العزيز والكريم حسين الجاف من الوثائق والمصادر ما استطيع ان أقول بانها كانت من اهم المعلومات التي مكنتني من انجاز أطروحتي والحصول على الشهادة العليا، وثَبَّتُ ذلك شاكرا في مقدمة أطروحتي والكتاب الذي صدر بعدها. وعندما انهيت زيارتي ذهبت الى الدكتور كمال وشكرته، وزيادة في إكرامي، وكجزء من سمو اخلاقه ابلغني ان لا أتردد في الكتابة له اذا ما احتجت الى اي شيء.

فضل كبير

عندما عدت الى العراق في عام 1978 وبعد ان تعينت في جامعة بغداد، بدأت ابحث عن الاخ صاحب الفضل الكبير حسين فيض الله الجاف. ولم يكن الامر هينا خاصة وان المجمع العلمي الكردي كان قد الغي، وأصبح المجمع العلمي العراقي هو المؤسسة الثقافية الوحيدة التي تجمع كل الثقافات العراقية. ثم علمت ان الاخ حسين، وانسجاماً مع توجهاته الثقافية والموسوعية، قد افتتح له مكتبة صغيرة في شارع فلسطين في بغداد اسماها (مكتبة البدليسي، تيمنا بالسياسي الامير والمؤرخ الكردي). ولم يكن من الصعب العثور على هذه المكتبة، حيث انها كانت تقع حيث كان يقع مسكنه الذي زرته اكثر من مرة في السابق لكي اطلع على ما يحتفظ به من وثائق نادرة. كان لقاءنا حميميا، ومنه علمت ان الاخ الدكتور كمال كان قد طُلِبَ منه ان يلتحق بالحركة الكردية المسلحة أسوة باغلب الموظفين العراقيين من الأكراد، بعد ان حصلت القطيعة بين السلطة المركزية العراقية وقيادة البارتي في عام 1974 وعلى الرغم من انه لم يكن من السياسيين القياديين في الحركة او الحزب، الا ان شعوره القومي وتمسكه بكرديته جعلته يلبي الطلب، ولو انه ظل يعتقد ان الحوار هو افضل سبيل لحل الخلافات بين الطرفين. كما علمت منه بان الدكتور كمال قد فصل من وظيفته بسبب قراره المشار اليه أعلاه، ثم شُمِلَ بالعفو الذي صدر بعد ان انهارت الحركة الكردية المسلحة بعد توقيع اتفاقية الجزائر (1975) وتمت إعادته الى جامعة بغداد قسم التاريخ، بعد فترة من المعاناة. وبالتاكيد لم يكن صعبا علي ايجاد ذلك القسم خاصة وأنه احد أقسام الجامعة التي تعينت فيها. وذهبت اليه لكي القي التحية واشكره على ما قدمه لي، وكان لقاءا شكل بداية لعلاقة اخوية وعلمية تصاعدت وتمتنت واستمرت حتى اخر ايام حياته. وما لفت نظري انني لم اجد في نفس المرحوم الدكتور كمال اية مرارة او حقد نتيجة ماعدنه خلال فترة القتال او بعدها، وطل يتمتع بشعور وطني عالي.

انسان متواضع

كان رحمه الله يجد في شخصي المتواضع خير عراقي-عربي يتحدث ويكتب عن القضية الكردية وكنت اجد فيه خير عراقي-كردي يناقش القضايا العراقية والعربية. كنا نناقش كل المسائل الخلافية بأخوة وهدوء. وعندما كنا نناقش رسائل أكاديمية او نشارك في محاضرات حول القضية الكردية، وخاصة في جامعة البكر للدراسات العليا كنا نكمل بعضنا البعض الاخر، حتى ان احد الطلاب الذين كان من الحزبيين البعثيين المتقدمين اعترض في احدى المحاضرات قائلا (بنوع من التهكم) انه كان يتوجب على الجامعة ان تأتي بأستاذ عربي وآخر كردي حتى يكون هناك توازن في طرح الاراء بدلا من أستاذين كرديين. وبشجاعته وروحه المرحة رد عليه قائلا (لقد شرفتنا نحن الكرد باعتبار كاكا دكتور سعد جزءا منا، واذا كان دكتور سعد لا يروق لكم بسبب آراءه فنحن مستعدون لان ناخذه منكم ونعطيكم بدلا عنه خمسة آلاف كردي، لا والله خمسين الف كردي).

ظل المرحوم الدكتور كمال وفيا لكرديته ولعراقيته، ولم يغادر العراق طيلة الحرب العراقية- الإيرانية ولا خلال سني الحصار الظالم، وظل يعاني كما كنا نعاني بسبب تلك الظروف، وظل جزءا من نخبة الأساتذة الذين أَطلَقتُ انا عليهم (الجيل الذهبي) من الأكاديمين العراقيين من مختلف الاختصاصات،  الذين ظلوا صامدين في مواقعهم التربوية والتعليمية، والى جانب طلابهم رغم هبوط قيمة رواتبهم وشظف العيش واختفاء اغلب مقومات الحياة من الغذاء والدواء والسلع الضرورية. وظل يُدَّرس ويُشرِف على طلابه، ويرفض كل مغريات العمل في الخارج خدمة لشرف المهنة التي التصق بها. وظللنا نلتقي في المناسبات العلمية وغير العلمية، وظل يحرص على دعوتنا انا والمرحوم الدكتور وميض نظمي في نادي صلاح الدين الذي كان يشتهر بوجبات الكباب المشوي. وكنت احرص على زيارته في الأعياد، ولم يفرقنا سوى الاحتلال الذي جعلنا نسير كل في اتجاه مختلف ونتباعد على الرغم منا في الأماكن، وليس المشاعر. ولم تبق لنا سوى وسيلة الاتصال الهاتفية. وعندما انتكست حالته الصحية كنت اتفقده واستفسر عن أحواله بين الآونة والأخرى وهو في ألمانيا من خلال حرمه الوفية الدكتورة التي صاحبته طوال محنته، مؤكدة أصالتها وطيب منبتها.  رحم الله الاخ الغالي والعالم الجليل والاستاذ القدير والإنسان الطيب الدكتور كمال مظهر احمد وجعل مثواه الجنة والهم اهله وذويه ومحبيه وطلبته الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا اليه راجعون.




AM:12:15:18/03/2021




1248 عدد قراءة