مذكرات وأوامر لاعتقال ناشطين.. هل يدخل العراق عهد ديمقراطية الخوف؟




مكتب حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة وثق اختفاء 123 شخصا خلال فترة الاحتجاجات الشعبية


شكلت الاحتجاجات الشعبية، وما رافقها من تطورات على الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية، نقطة تحوّل في النظام السياسي العراقي الحالي.

ومع تطور هذا التحول، برز في الميدان عمليات تتبع الناشطين، ورصد تصريحات الباحثين والناقدين للنظام الديمقراطي القائم بعد الغزو الأميركي للبلاد عام 2003، وملاحقتهم قضائيا.


ووثق مكتب حقوق الإنسان في بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق (يونامي) اختفاء 123 شخصا في الفترة ما بين 1 أكتوبر/تشرين الأول 2019 و 21 مارس/آذار 2020، مما سهل العثور على 98 من العدد المذكور آنفاً، ولا يزال 25 آخرون في عداد المفقودين.

ورغم نداءات مفوضية حقوق الإنسان إلى الحكومة بضرورة حماية حرية التعبير، كان إصدار مذكرتي إلقاء قبض بحق الباحثين السياسيين يحيى الكبيسي وإبراهيم الصميدعي لافتاً، خصوصاً وأنه فتح باب التصفية السياسية والتراشق الكلامي بين الفريق المعارض للحكومة والمؤيد، حتى أن رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي لم يسلم من تلك الاتهامات التي أشارت لوقوفه وراء إصدار أوامر القبض، وهو ما نفاه الكاظمي على لسان مصدرٍ مقرب.

ويقول الكبيسي للجزيرة نت إن مذكرة الاعتقال الصادرة بحقه تأتي في سياق الاستهداف السياسي الصريح، وهي المذكرة الثانية التي تصدر ضده، كما أنها تأتي في سياق طويل من استخدام الدولة بالكامل، وليس الحكومة، القضاء من أجل تصفية حسابات سياسية.

ويعتقد في حديثه للجزيرة نت أن النظام السياسي القائم لن يسمح لأحد بتشخيص أخطائه، وبالتالي سيحاول سحق أية محاولة بهذا الاتجاه، لكنه يشير إلى أن صدور مذكرتي إلقاء قبض ضده والصميدعي برقمين متسلسلين، وفي اليوم نفسه، ومن قاض واحد، يفضح أن الجهة التي كانت خلفهما واحدة، حتى وإن اختلف اسم المشتكي.

الفرار أو الموت
ويمكن تجسيد مخاوف ملاحقة أصحاب الرأي والناشطين بالعودة إلى المشاركين في الاحتجاجات الذين انتهى بهم الأمر باختيار أحد الأمرّين إما الموت أو ترك منازلهم والفرار باتجاه اقليم كردستان العراق.

ويقول بعض الناشطين إن هناك فريقا منهم يعاني من الملاحقات القانونية أو تهديدات جماعات مسلحة، حتى أن منهم من صدرت بحقه مذكرات اعتقال، بعضها يخص التحريض والاخلال بالأمن المجتمعي، ومنها ما هو بعيد عن الواقع كقضايا مشاجرات وغيرها.


الناشط والصحفي زيد الفتلاوي -الذي كان يسكن محافظة الديوانية (جنوب)- هو أحد الذين اضطرتهم الظروف لترك منزله وعمله بعد تلقيه تهديدات مباشرة من جماعة مسلحة اعترضت على تغطيته للاحتجاجات، فضلاً عن مواقفه من المتظاهرين، مما دفعه للسفر لإقليم كردستان.

ويروي الفتلاوي للجزيرة نت تفاصيل تهديده من قبل مسلحين مجهولين، ويقول إنهم لاحقوه إلى مكان عمله، وبعد أن رصدتهم كاميرات المراقبة أرسلوا له رسائل عبر منصات التواصل الاجتماعي وتصوير منزله والتوعد بتصفيته.

ويحمّل الصحفي مسؤولية ما يحدث معه، وأقرانه من الناشطين وأصحاب الرأي، الحكومة وقواتها الأمنية، ويؤكد أن هذا ما تمثل بمطالبة الحكومة المحلية في مدينته القوات الأمنية بعدم التعاون معه، وهذا مؤشر خطير جداً يعطي الضوء الأخضر بتصفيته رغم عدم وجود أي خطأ اقترفه سوى عمله في تغطية الاحتجاجات الشعبية.

ويرى الفتلاوي أن الحكومة حبيسة قوى اللادولة والأحزاب السياسية النافذة لأنها عاجزة تماماً عن حماية أي مواطن، وأجهزتها الأمنية مخترقة وعاجزة عن تطبيق القانون ضد أي جهة مسلحة.


في دائرة الاتهام
ومع إطلاق القضاء سراح الصميدعي صباح الاثنين بكفالة مالية لحين موعد محاكمته، يصر فريق من المعارضين على اتهام الحكومة بالضغط على المؤسسات القضائية لإصدار مذكرات القبض بغية تحقيق تصفية سياسية، لكل من يحاول أن ينتقد الحكومة أو يشخص أخطاء النظام الحالي.

اعلان
لكن المرصد العراقي لحقوق الإنسان يعتبر استخدام الآليات القضائية في مثل هذه الحالات أخطر من حالات الاغتيال، لأنها ستضع الناشطين والمحللين والناقدين السياسيين جميعهم تحت معادلة الترهيب.

ويقول مدير المرصد مصطفى سعدون للجزيرة نت إن ما حدث للكبيسي والصميدعي لا يدخل ضمن خانة فرض القانون أو ارتكاب الجرم، لأن وظيفتهما معروفة لدى الجميع وهي تشخيص أخطاء السلطة ونقد أدائها، مؤكدا أن ما حدث محاولة ترهيب لا أكثر، وهذا قد يتعرض له جميع أصحاب الرأي مستقبلاً.

إسقاط سياسي
ويربط الكاتب والمحلل السياسي عبد الرحمن الجبوري، المعروف بقربه من الكاظمي، أسباب اتهام الحكومة بملف ملاحقة الناشطين وأصحاب الرأي بالتسقيط السياسي الذي يعتبرُ جزءا من أجندة الخصوم لزعزعة الثقة بالحكومة وإشغالها عن تقديم خدماتها أو التخطيط للمستقبل.

ويؤكد الجبوري -في حديثه للجزيرة نت- أن الدولة لا تحتاج إلى قيادة عمليات تآمر أو اغتيال أو ترهيب بحق الناشطين، لأنها مؤتمنة على سلطة القانون والقضاء، وهذه الأساليب من صفات خلايا الموت القائمة على تجارة الفوضى.

ويعبر عن أسفه لأن يتعرض بعض الناشطين والمدونين إلى ضغط من أجهزة الدولة، لكن يتعين الاحتكام للقضاء والقانون وأن تكون التهم واضحة والمحاكم شفافة ونزيهة، وعلى الناشطين السياسيين أن يتجنبوا المواضيع التي تثير الانقسام المجتمعي وتخلف حالة من الفوضى وتثير نزعات الانتقام.

وقرر القضاء إطلاق الصميدعي بكفالة مالية بعد 3 دعاوى مرفوعة، تتعلق الأولى بالإساءة للمؤسسات العامة بالدولة، والثانية من قبل وزير الدفاع، والثالثة تتعلق بعرض مبلغ مالي عليه مقابل توسطه لأحد الأشخاص في تولي منصب وزاري.


تصحيح المسار
ويقدم فريق من القانونيين رؤية لتعديل أكثر من 15 مادة في قانون العقوبات لأنها تتعارض مع حرية الرأي والتعبير، مما يجعل ملاحقة الناشطين المدنيين والسياسيين سهلة كونها تستند لمواد قانونية يعود صياغتها لأكثر من 5 عقود، ويؤدي بعضها إلى عقوبة السجن المؤبد أو الإعدام وهو ما يتناقض مع دستور عراق ما بعد 2003 الذي يكفل حرية التعبير.

ويقول الخبير القانوني مصدق عادل للجزيرة نت إن المادة (٣٨/ أولا) من دستور جمهورية العراق لسنة ٢٠٠٥ كفلت حرية التعبير عن الرأي، وفِي الوقت نفسه فإن قانون العقوبات رقم ١١١ لسنة ١٩٦٩ يعاقب من يمارس حقه بالتعبير عن الرأي، لذا فإن هناك انتهاكات دستورية بشأن مقاضاة من يدلون برأيهم.

ودعا عادل مجلس النواب إلى تصحيح هذا التناقض عبر طريقتين: الأولى العمل على تعديل قانون العقوبات بالشكل الذي ينطبق مع نصوص الدستور في كفالة حرية الرأي، والثانية من خلال تشريع قانون لحرية التعبير عن الرأي وفق المادتين ٣٨ و٤٦ من الدستور.

وتنص المادة 38 من الدستور على كفالة الدولة لحرية التعبير بكل الوسائل وحرية الصحافة والطباعة فضلاً عن حرية الاجتماع والتظاهر السلمي، لكن المادة 46 تشدد على ضرورة عدم تقييد ممارسة أيٍ من الحقوق والحريات الواردة بهذا الدستور أو تحديدها إلا بقانون أو بناءً عليه، على ألا يمس ذلك التحديد والتقييد جوهر الحق أو الحرية.

غياب قانون حرية التعبير
ومنذ دورتين برلمانيتين يخفق مجلس النواب في تمرير قانون حرية التعبير والتظاهر السلمي بسبب الضغوط السياسية التي سعت حينها لفرض إرادتها عليه من خلال وضع قيود قانونية تقيد حرية التعبير، وتجعلها رهينة لبعض التوجهات.

ويؤكد سعدون وجود أطراف سياسية تمنع إقرار القانون المذكور لأنها تريد صياغته بطريقة بوليسية، مما يجعل المطالب تتزايد بضرورة إقراره بطريقة تتوافق مع المادة 38 الدستورية إضافة للمواثيق الدولية.

لكن هذه التحذيرات بددها حديث لجنة حقوق الإنسان في البرلمان التي أكدت اكتمال القانون منذ أشهر وأنها سلمت نسخته إلى هيئة رئاسة المجلس، والتي بدورها ستعقد جلسة مع الناشطين المدنيين قبل التصويت عليه لتسوية الفقرات الخلافية منها الإذن والإخطار التي تتعلق بالموافقة على التظاهر.

وقال رئيس اللجنة أرشد الصالحي للجزيرة نت "إننا ننتظر إيعاز رئاسة البرلمان للاجتماع مع الناشطين للاتفاق على صيغته النهائية" وطالب الناشطين والباحثين السياسيين باحترام أساسيات التصريح الإعلامي ومغادرة لغة الاتهام التي توجهُ إلى الدولة ومؤسساتها والطبقة السياسية.

تطورات ملاحقة الناشطين وأصحاب الرأي زادت من مخاوف التحول إلى نظام يضيق خناق حرية التعبير. يقول الكبيسي "الديمقراطية في العراق مجرد شكل دون أي محتوى حقيقي، أي ديمقراطية بلا ديمقراطيين، وقلنا إن الطبقة السياسية جميعها، ومن دون أي استثناء، لا تؤمن بالديمقراطية، ولم تكن يوما من الداعين لها".

ويعتقد الكبيسي أن السياسيين اضطروا لقبول الديمقراطية لأنها كانت خيارا أميركيا، ولكنهم عملوا بمنهجية لتقويض أي محتوى ديمقراطي يمكن البناء عليه، بحسب رأيه.


PM:01:25:25/03/2021




468 عدد قراءة