“التعامل مع مواقع إلكترونية مشبوهة” : تهمة جديدة لملاحقة الصحفيين في سوريا




ستكون هذه المادة بدون اسم كاتبها، كون النظام السوري حل جميع المشاكل حتى ليلتفت إلى ما يكتبه بعض "المغرضين" عبر صفحات التواصل الاجتماعي والذين يتعاملون مع "مواقع إلكترونية مشبوهة".

قبل أيام عرضت إحدى القنوات الأجنبية العاملة في سوريا تقريراً عن أزمة البنزين التي تعاني منها البلاد حيث تنتشر طوابير الانتظار ساعات طويلة للحصول على 20 ليتراً. بعد عرض التقرير وجهت إحدى الجهات الحكومية تنبيهاً للمراسل السوري للقناة بعدم تصوير مثل هذه الأشياء مرة أخرى. 

هذه الواقعة رددها صحافيون همساً، فيما عمد آخرون من الصحافيين العاملين داخل مناطق سيطرة النظام في سوريا الى الانتباه أكثر لما يقولونه ويكتبونه. لجأ البعض الى محو تعليقات عن مواقع التواصل الاجتماعي وأحجم البعض الآخر عن الكتابة الصحفية بالاسم الصريح. 

لطالما كان العمل الصحافي في سوريا مشوباً بمخاطر لا تتوقف عن حد الاعتقال والقتل والاستهداف، وهذه المخاطر مستمرة، وقد دفع عشرات الصحافيين والصحافيات أثمان فادحة لها. ويبدو أن هذا النهج لن يتراجع بل بدأ يأخذ منحى تصعيدياً مؤخراً، ففي الثاني من شباط/ فبراير أعلنت وزارة الداخلية عبر حساباتها على مواقع التواصل الاجتماعي أن إدارة الأمن الجنائي ألقت القبض على ثمانية أشخاص بجرم التواصل والتعامل مع "مواقع إلكترونية مشبوهة”، دون أن تذكر اسم هالة الجرف (أبرز وجوه التلفزيون السوري لأعوام) بشكل صريح بل عن طريق الرموز (هـ. ج). وقالت الوزارة في بيان إن هؤلاء الأشخاص اعتقلوا: "بجرم التواصل والتعامل مع تلك المواقع الالكترونية لتسريب معلومات مزيفة ومشوهة إليها لإحداث البلبلة وتشويه الرأي العام، وبالتحقيق معهم اعترفوا بأقدامهم على التواصل مع تلك الصفحات وتزويدها بمعلومات ملفقة”. أما السبب الحقيقي وراء اعتقال الجرف فكان منشوراتها على صفحتها الخاصة عبر "فيسبوك” حيث انتقدت سوء الأوضاع المعيشية في البلاد. 

رئيس فرع مكافحة جرائم المعلوماتية لؤي شاليش، صرح لوسائل إعلام محلية قائلاً: "لم يتم توقيف الجرف بسبب النشر على صفحتها وحالياً لا يمكننا الحديث بتفاصيل القضية كون الموضوع منظور أمام القضاء المختص وهو قيد المعالجة والقضاء سيفصل إذا كانت مذنبة أم لا”. لكن رئيس اتحاد الصحفيين موسى عبد النور ناقض ما قاله شاليش حين ذكر أن الإعلامية هالة الجرف تم إيقافها على ذمة التحقيق بسبب "مخالفات تتعلق بوسائل التواصل الاجتماعي”. 

وأدعى شاليش في لقاء مع إذاعة محلية بداية شباط الماضي بأن أحداً لم يوقف، لنشره عن أزمات البنزين أو أزمات أخرى يعيشها المواطنون، "ولم تأتنا أي شكوى حتى لا من وزارة النفط ولا الكهرباء، علماً أنه (المواطن) يقوم بتوصيف الواقع فمن منا لا يعلم بأزمة النفط وتقنين الكهرباء ومن ينشُر أن هناك أزمة فهل هي معلومة جديدة لا وإنما هذا واقع” على حد قوله. وسبق أن أكد وزير الاعلام عماد سارة أنه لن يتم توقيف أي صحفي قبل إطلاع وزارة الإعلام على أسباب التوقيف”.


تغطية الوضع المعيشي إعلامياً خط أحمر
وكانت إدارة الأمن الجنائي أوقفت فتاة تدعى(ل.و) – بحسب ما ذكرت وزارة الداخلية – بعد أن أعدت تقريراً مصوراً تصف فيه الوضع المعيشي في مدينة طرطوس وتستطلع آراء الناس هناك، نشرته قناة "تلفزيون سوريا” المعارضة، وبحسب ادعاءات وزارة الداخلية فإن الفتاة "لم تكن تعرف بأن تلك المقاطع سوف تعرض على موقع معارض، كما أنها لا تحمل أي تصريح بممارسة العمل الصحفي من أي جهة رسمية”، مشيرة إلى أنه "نُظم الضبط اللازم وستقدم الفتاة للقضاء المختص.” وذكرت الوزارة في بيانها بأن القناة نشرت المقاطع المصورة "بعد حذف العبارات المؤيدة للدولة من كلام الأشخاص المتحدثين بهدف الإساءة للدولة”، على حد زعم الداخلية.وحصد البيان موجة استهجان وتعليقات ساخرة إذ أن التقرير لم يشر إلا لواقع اقتصادي معاش، ولم يتطرق إلى أمور سياسية أصلاً.

وبعد ظهور التقرير على قناة "سوريا” طلبت وزارة الإعلام من أجهزة الأمن التأكيد على الأشخاص الذي يصورون تقارير صحفية وخاصة بالشارع بضرورة حمل تصريح لذلك.

بيد أن الإجراءات الأخيرة من قبل الأجهزة الأمنية أثارت مخاوف عميقة لدى الصحفيين السوريين عموماً وخاصة المستقلين أو المتعاونين مع مواقع وصحف عربية وأجنبية سواء بأسمائهم الحقيقية أو المستعارة، فالتهمة القانونية الجديدة (مواقع مشبوهة) تثير الذعر وتفتح باباً جديداً لخنق حرية الصحافة والتضييق على الصحفيين من غير العاملين في الجسم الصحفي الرسمي والحكومي، رغم أنه لا يوجد قانون في سوريا يحدد ماهية هذه المواقع الإلكترونية المشبوهة.

"السلطات الثلاث في سوريا تريد من السلطة الرابعة أن تصمت إلى الأبد، رغم أنها لم تمارس سلطانها إلا في حدود ضيقة مرسومة بعناية. تهمة التعامل مع المواقع المشبوهة تثير مخاوف ممتدة عبر عقود، الصحافة ليست جريمة في كل بلدان العالم إلا أنها أعلى من مراتب الجرائم الجنائية والاقتصادية في بلدي”، يقول صحافي فضل عدم ذكر اسمه. 


كنان وقاف: الحديث عن الفساد ممنوع
ولم يكن اعتقال الصحفيين والتضييق عليهم جديداً لكن الحجج تتغير مع الزمن ولا فرق هنا بين صحفي مستقل أو يعمل في مؤسسات حكومية ما زال لا يمارس تلميع الصورة وتبيض الصفحات المتسخة بالفساد والجريمة والقتل، إذ أن الغاية هي كم الأفواه بغض النظر عن الوسيلة الميكافيلية، ومن هذا المنظور، اُعتقل الصحفي في جريدة "الوحدة” المحلية بمحافظة اللاذقية كنان وقاف عدة مرات دون ذكر الأسباب. وقاف كان نشر تحقيقاً تحدث فيه عن "هدر للمال العام وشبهات بالفساد” في شركة كهرباء طرطوس، كما تحدث أيضاً عبر حسابه على "فيسبوك” عن اختطاف عسكري من قبل أحد المحافظين في المنطقة الشرقية مطالباً بمبلغ (15 مليوناً) من عائلته.

وكتب وقاف عبر صفحته على "فيسبوك” "فشة استدعاء (إلى إدارة الأمن الجنائي بدمشق) فرع الجرائم الإلكترونية..   قولكم شو عامل أنا؟؟؟”، وبدلاً من الدفاع عن الصحفي العامل فيها، نشرت جريدة الوحدة منشوراً عبر صفحتها على "فيسبوك”، جاء فيه أن وقاف اعتقل لـ”قيادته سيارة غير نظامية ومهربة، بالإضافة إلى تهربه من خدمة العلم”، وبعد ذلك انتشرت عبر الفيسبوك صوراً لدفتر الخدمة العسكرية لوقاف تبين أنه وحيد (أي لا يجب أن يؤدي الخدمة العسكرية) بعد وفاة أخيه، وهذا ما دفع الصحيفة لنشر تبرير جديد أن وقاف اعتقل نتيجة تشابه أسماء بينه وبين معتقل آخر يدعى خليل وقاف. بعد ذلك اعترفت الصحيفة أن اعتقال وقاف كان نتيجة التحقيق الذي نشره بخصوص شركة كهرباء طرطوس، وكتب الجريدة عبر فيسبوك : "الزميل كنان أوقف من قبل القضاء، إثر شكوى قدمها بحقّه السيد مازن حماد، حول نشره تحقيقاً صحفياً عن كهرباء محافظة طرطوس ورد فيه اسمه، في جريدة الوحدة، وصفحته الشخصية على فيسبوك، وصلة السيد حماد بالموضوع، والفساد بعقود توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية، وقدّم قائد شرطة طرطوس اعتذاراً شخصياً عن الخطأ الذي حصل نتيجة التشابه في الكنية حسب قوله، مع موقوف آخر يُدعى خليل وقاف”.

قوانين على أهواء السلطة
تتذرع وزارة الداخلية بقانوني العقوبات ومكافحة الجرائم المعلوماتية خلال ملاحقتها للصحفيين دون الالتفات إلى قانون الإعلام الصادر عام 2011، حيث تنص المادة 285 من قانون العقوبات أنه "من قام في سوريا في زمن الحرب أو عند توقع نشوبها بدعاوى ترمي إلى إضعاف الشعور القومي أو إيقاظ النعرات العنصرية أو المذهبية عوقب بالاعتقال المؤقت” أما المادة 286 من القانون نفسه "يستحق العقوبة نفسها من نقل في سوريا في الأحوال عينها أنباء يعرف أنها كاذبة أو مبالغ فيها من شأنها أن توهن نفسية الأمة”، بينما تقول المادة 287 ” كل سوري يذيع في الخارج وهو على بينة من الأمر أنباء كاذبة أو مبالغاً فيها من شأنها أن تنال من هيبة الدولة أو مكانتها المالية يعاقب بالحبس ستة أشهر على الأقل وبغرامة تتراوح بين ألفي وعشرة آلاف ليرة”.

في حين تنص المادة 28 من قانون مكافحة الجرائم المعلوماتية أنه يضاعف الحد الأدنى للعقوبة المقررة لأي من الجرائم المنصوص عليها في القوانين الجزائية النافذة الأخرى في إحدى الحالتين التاليتين:

1) إذا ارتكبت الجريمة باستخدام الشبكة أو وقعت على الشبكة. 

2) إذا وقعت الجريمة على جهاز حاسوبي أو منظومة معلوماتية بقصد التأثير على عملها، أو على المعلومات أو البيانات المخزنة عليها. 

من الجلي أن هذه القوانين مفصلة على مقاس ما يريده النظام السوري أن ينتشر ويصل للرأي العام، بعيداً عن الحديث عن حقيقة الأوضاع وما يحصل في البلاد، ولتبقى تهمة "وهن نفسية الأمة” تلاحق السوريين ممن يعارضون السلطة منذ عشرات السنين، دون أن يحاسب أحد هذه السلطة التي توهن نفسية السوري كل يوم بأفعالها وقراراتها حتى أصبح أكثر من 80% من المواطنين تحت خط الفقر.   

في ذيل مؤشر حرية الصحافة العالمي
وبحسب مؤشر حرية الصحافة الذي أصدرته منظمة "مراسلون بلا حدود” لعام 2020 ، جاءت سوريا في المرتبة ما قبل الأخيرة عربياً، وبالمرتبة 174 عالمياً.

وعلى الرغم من انخفاض عدد الصحفيين الذي قضوا سنوياً في أثناء النزاع المسلح في البلاد والموثقة من قبل مرصد "اليونسكو” لجرائم قتل الصحفيين، من 42 صحفياً في 2012 إلى 4 صحفيين فقط في 2020، إلا أن موجة كبيرة من التهديدات والاعتقالات التعسفية زادت في كل مناطق البلاد ومنها مناطق سيطرة الحكومة السورية.

وتعرضت مواقع سوريّة منها "هاشتاغ سورية” إلى حملة تضييق كان أبرزها عام 2019، حيث اعتقل فرع جرائم المعلومات مؤسس الموقع على خلفية نشر خبر حول وجود دراسة تقضي بإلغاء الدعم عن البنزين خارج مخصصات البطاقة الذكية، وهو أمر أكده رئيس الحكومة الأسبق "عماد خميس” خلال اجتماعه مع صحفيين من القطاع الخاص وقتها، لكن وزارة النفط والثروة المعدنية اتهمته بخلق أزمة محروقات في البلاد.

وتشير الحقائق على الأرض إلى أن ما يعانيه الصحفيون داخل سوريا أكبر بكثير من المعلن، فإلى جانب عدم التعاون مع الصحافة عموماً ورفض تقديم البيانات، يتعرض الصحفيون لتهديدات مختلفة من قبل المسؤولين الحكوميين، وتقييد حركتهم مثل إجراء منع السفر.

ستكون هذه المادة بدون اسم كاتبها، كون الحكومة السورية انتهت من حل جميع المشاكل الخدمية التي تعاني منها المناطق الخاضعة لسيطرتها من أزمة نقل ووقود وخبز إضافة لانخفاض قيمة الليرة أمام الدولار وغيرها، حتى تلتفت إلى ما يكتبه بعض "المغرضين” عبر صفحات التواصل الاجتماعي والذين يتعاملون مع "مواقع إلكترونية مشبوهة”.




AM:11:27:10/04/2021




624 عدد قراءة