العباءة الزينبية و"بلاغة السوق" في زمن التديّن السلطوي
سهام يوسف علي
في خضم هذا الركام الذي نعيشه، خرجت علينا رئيسة لجنة البيئة (!) في مجلس محافظة بغداد بمقترح لاعتماد "العباءة الزينبية" زيًا رسميًا في دوائر الدولة للموظفات. لا نعرف بالضبط أي علاقة تربط البيئة بشكل العباءة، ولا أي تدهور مناخي ستصلحه قطعة قماش سوداء تجرها النساء في ممرات الدولة المتآكلة. لكننا نعرف أمرًا واحدًا على وجه اليقين: هذه ليست عباءة، بل راية رمزية، نص طائفي يمشي على الأجساد، هوية مشحونة تُلبس للناس قسرًا باسم الفضيلة.
السؤال ليس عن العباءة ذاتها، بل عن لحظة اتخاذ القرار. ماذا يعني أن تعلن جهة رسمية – باسم الدولة، لا باسم الحوزة – أن هذا اللباس بالذات هو الزي الرسمي؟ ألا تذكرنا هذه اللحظة بلحظات فارقة في التاريخ حين قررت الأنظمة أن تُلبس مواطنيها رموزًا؟ ألم تكن النازية أول من قرر أن يضع نجمة داوود على ثياب اليهود؟ ألم تفرض الأنظمة الشمولية زيًا موحدًا يُفرَض على الجسد لينزع عنه خصوصيته ويجعله ملكية رمزية.
ما يجري اليوم في بغداد ليس مجرد قرار محلي عابر، بل هو إعلان جديد لانتصار "البلاغة الرمزية" على بلاغة القوانين. قرار اعتماد العباءة الزينبية زيًا رسميًا للنساء في دوائر العاصمة، لا يأتي في سياق تنظيم إداري أو حتى تقنين عرفي، بل يبدو أقرب إلى بيان أيديولوجي بملامح لاهوتية ناعمة، تُطرح من داخل مؤسسة الحكم، وتُسوّق كأنها استجابة لمزاج شعبي أو عرف اجتماعي، في حين أنها ليست سوى إملاء من سلطة تزعم القداسة.
وفي الحقيقة، لا يمكن فصل هذا القرار عن موجة "التديّن السوقي" التي صارت تشكّل جزءًا من أدوات السيطرة السياسية، فكما روّجوا يومًا لـ"الخمار الأسود" بقصيدة الدارمي، يروجون اليوم لـ"العباءة الزينبية" بقرار رسمي. الفارق أن مسكين الدارمي كان شاعرًا يطلب الرزق، أما هؤلاء فسلطة تنقّب في الجسد وتفرض عليه خرائط طاعة باسم الحياء والهوية.
العباءة هنا لم تعد مجرد ملبس، بل تحوّلت إلى مؤشر انتماء، وختم ولاء، وعلامة سياسية تتخفى خلف شعار الفضيلة. وفي هذا السياق، يغدو الجسد الأنثوي مرة أخرى ساحة للصراع بين الترويج والهندسة الاجتماعية، بين التديّن الرمزي والسوق الرمادي، حيث تُصنع القوانين لتلبّي مزاج "المرجعية السياسية" وليس حاجات المجتمع.
ومن المثير للانتباه أن هذا القرار لم يأتِ من جهات دينية، بل من مجلس محافظة مدني منتخب، يُفترض به أن ينشغل بتوفير الخدمات والحد من الفساد، لا أن يتحوّل إلى هيئة فرض أزياء. كأن هذا المجلس لم يجد أزمة في تكدس النفايات، ولا في انهيار البنية التحتية، ولا في عجز المدارس، بل وجد ضالته في جسد المرأة ليعالج "هوية العاصمة" عبر العباءة.
ليست المشكلة في أن ترتدي النساء عباءة زينبية، أو صوفية، أو أوروبية. المشكلة في أن السلطة حين تدخل في تفاصيل الجسد، تكون قد استنفدت عقلها السياسي وتحولت إلى راعٍ أخلاقي فاشل. المشكلة في أن يُسنّ قانون أو يُقترح إجراء يفرض رمزية مذهبية في بلد يُفترض أن يكون لكل أبنائه، لا لمذهب دون آخر.
إننا لا نناقش قماشًا بل هيمنة. ولا نناقش الحياء بل أدلجة الحياء. ولا نناقش الذوق العام بل قوننة الولاء الطائفي. هذا القرار – إن تم – لن يكون لحظة دينية، بل لحظة تطييف للدولة، وتحويل النساء إلى حاملات هوية مذهبية إجبارية تحت يافطة الوظيفة.
ربما لم يبق من الدولة إلا الجسد الأنثوي، تُمارس عليه سلطة مشلولة، تعجز عن إدارة ملف نفايات، لكنها لا تعجز عن ضبط طول العباءة وقياس استقامتها الزينبية.
كما أن استحضار رمزية "الزينبية" في القرار يحمل بُعدًا تعبويًا لا يُخطئه من يراقب خطاب بعض القوى المهيمنة، حيث يتم توظيف الأسماء الدينية الكبرى في تجسيد الطاعة السياسية، واختزال المرأة في صورة المقاتلة الصامتة، الحزينة، المتخفية عن الضوء.
هذا القرار لا ينتصر للقيم بل يُسعّرها. لا ينتمي للدين بل يوظّفه. لا يحفظ كرامة المرأة بل يعيدها إلى سياق "الهدية المُغلّفة" التي تُعرض في السوق السياسي، وتُهدى للسلطة العليا.
وتمامًا كما قال هتلر: "أخاطب الغدد، لا العقول"، فإن هذا النوع من السياسات يخاطب المخاوف والهواجس والغرائز، لا العقول المدنية التي تريد دولة قانون تحترم تنوعها وتفصل بين المعتقد الشخصي والزي الرسمي.
وكلما أُدرج جسد المرأة ضمن أدوات البيان السياسي، سواء بالتعرية أو بالتغليف القسري، فاعلم أن "السوق" لا يزال يتحكم بالمشهد، وأن الجسد ما زال سلعة، لا موضوعًا للكرامة.
نختم بالسؤال الحقيقي: من الذي يجب أن يرتدي العباءة؟ المرأة أم الخطاب الذي يستحي من مواجهة الواقع؟

AM:03:00:05/06/2025