السلطة الرابعة تفتقد مسؤولياتها التاريخية لقول الحقيقة
عصام الياسري

على الرغم من مرور أكثر من عقدين على سقوط نظام البعث الديكتاتوري، والطبقة السياسية الماسكة بأذرع السلطة في العراق، لا تمتعض لأن تترك أساليب النفاق السياسي والكيد الفكري والكذب والخداع على المستويين، السياسي والاجتماعي ولغرض البقاء في سدة الحكم، لم تتجنب ممارسة التمييز العقائدي والمجتمعي وإقحام الدين في السياسة. والأخطر، التجاوز على الدستور الذي خطته وأقرته بمحض إرادتها وتحريفه لأغراض سياسية حيثما أمكن وبما يتناسب وضمان مصالحها الفئوية مع شرطية التوافقية السياسية لإدارة الدولة ومؤسساتها... والأنكى من ذلك، مسعاها المستمر لإقصاء القوى السياسية والأحزاب التي لديها رأي لا ينسجم مع عقيدة النظام الطائفي الذي أسس له الاحتلال. وبحكم تموضعها المؤسساتي، تصف قيود قانونية أو إجراءات قضائية تستهدف تقييد أو قمع حرية التعبير وحرية الرأي، بما في ذلك ممارسة سياسة التهميش والإقصاء وحرمان المعارضة من المشاركة بصنع القرار.
وبسبب سوء إدارة شؤون الدولة واتخاذ القرارات الخاطئة، عرضت البلاد والمجتمع العراقي لمخاطر وانزلاقات سياسية واجتماعية واقتصادية وأمنية لا تغتفر. الأمر الذي أوصل بها إلى ان لا تجد نفسها ملزمة لأن تقف بالضد من هذا السلوك الخطير ومعالجته. بل تسببت بفشل استقرار الدولة ومؤسسات الحكم لتحقيق التوازن بين تحمل المسؤولية وطبيعة المؤسسة وإدارتها. يفسر ذلك، إخفاقها على مدى عقدين، في تحقيق أبسط متطلبات المجتمع نحو الانفتاح السياسي والاستقرار الاقتصادي والعدالة الاجتماعية، وحتى توفير الحماية المعيشية والأمنية لأبناء المجتمع العراقي دون تمييز.
كي ندرك خطورة الأزمات وآثارها المتفاقمة على بلادنا وكيف تؤدي في النهاية إلى تآكل الأمن داخل محيطها الجيوديموغرافي. علينا في هذه اللحظة الحرجة من تاريخ بلادنا سوى أن نستشرف أهمية دور الإعلام وأصحاب الرأي والقلم فيما يتعلق الأمر بنقل العراق من موقعه الزائف الذي لم يكن يريده لنفسه، إلى الخيار الآخر، إصلاح النظام!.
وإن كنا نطمح في مثال العراق وما يتعلق وشأنه الوطني ومستقبله السياسي، أن يكون "للسلطة الرابعة" كما هو مشاع أو يطلق على "الإعلام" وحساسيته، دورا أكثر نضجا ومسؤولية، لما له من قدرة وإلمام على تفسير مفردات الأمور وما يمتلكه من دور مؤثر في حياة المجتمع العراقي وفي الكثير من الأحيان على السياسة ومساراتها ورموزها. إلا أن هدفنا، من حيث ما قصدناه من وراء عنوان المقال بـ "السلطة الرابعة" لم يكن إشارة للمؤسسة الإعلامية كسلطة رابعة قطعا. إنما في فضاء آخر، لإدراكنا من أن الصحافة والإعلام في حالة يرثى لها. ولا يمكن أن تلعب في السياسة على وجه التحديد، دورا رياديا "إلا ما ندر"، وبقدر الهمس في أذن صاحب القرار وطاعة أوامره... ما نعنيه حقيقة الأمر هو كشف قناع "سلطة الدولة العراقية" التي أتت على أنقاض ثلاث سلطات تناوبت على حكم البلاد منذ تأسيس الدولة العراقية المعاصرة، ألا وهي: سلطة العهد الملكي التي أنتجت قفزة معاصرة في تاريخ العراق. سلطة عهد الجمهورية الأولى، التي حققت خلال خمس سنوات قياسية من عمرها أهم المنجزات الستراتجية ما لم تحققه أية دولة. وسلطة عهد البعث الديكتاتوري التي لم تجلب للعراق إلا المآسي والدمار. وأخيرا، سلطة عهد الاحتلال التي لا زالت تغرد على هامش الطائفية والتوافق السياسي الذي وضع العراق على حافة الهاوية ونخر الفساد بدنه. هذه هي "السلطة الرابعة" التي نعنيها، وتتباين مواقفها بين محورين أساسيين: عراقي لا حول له ولا إرادة، ودولي إقليمي، يشكل مركز القرار الذي لا يحيد عنه...
في إطار هذه المعادلة غير المنسجمة موضوعيا مع الواقع العراقي والصعيد الوطني من الناحيتين السياسية والاجتماعية، تتراوح "آليات الحكم" بشكل تلقائي بما لا يتوافق مع رغبات وطموحات العراق ومجتمعاته بل ينسجم مع مصالح طرفي القوى الماسكة بخناق الحكومة التي ترى في بقاء الأزمات التي ينتجها صراع القطبين (إيران واميريكا) على الأرض العراقية، ضمانا لبقائها في الحكم والوجود الأمريكي الذي يرى في هذه الطبقة ضمانا لتنفيذ استراتيجياته ومخططاته في العراق والمنطقة. مع هكذا نموﺫج من التوافق في المصالح والعلاقات والأساليب وسياسة التمحور، انزلق العراق في أتون سياسات غير متكافئة، أجهزت على كل مرافق الدولة بما في ذلك العسكرية والاستخباراتية والاقتصادية والحياة الثقافية في العراق.
هكذا، يلوح العراق في الأفق، بلدا ممزقا متناحرا تعصف به الانقسامات المجتمعية والصراع السياسي والفكري والطائفي... تحكمه شلل طائفية وشعبوية غير متجانسة، تساوم على مصير وطن ومستقبل شعب بحجة الدفاع عن ديمقراطية زائفة غير موجودة أصلا. غير أنها، تنخر بيئته المتعددة الثقافات نحو الأسوأ وبكل الوسائل، أخطرها، الإعلامية والعقيدة الشعبوية.
في كل الأحوال لا مؤسسة "الإعلام" مهما امتلكت من مقومات فكرية وحرفية. ولا سلطة عراقية ينقصها المستلزمات السياسية والتقنية في ظل ظروف معقدة أرادت لها أطرافا داخلية وإقليمية ودولية، قادرين على مواجهة الحدث وتوجيه مسار مستقبل العراق بما يتوافق مع رغبات وطموح المجتمع العراقي... لقد فقدت الحكومة العراقية الإرادة على العراق وتعاظم القرار والتواجد الإقليمي في الشأن العراقي. وعلى الرغم من انكشاف سياستها الكاﺫبة دوليا وداخليا وانتقاد الأوروبيين لها حد القول إنها فتحت "باب جهنم" على العالم بما في ذلك العراق، لا زال الموقف الأمريكي فيما يتعلق الأمر والشأن العراقي، متباينا. الغريب في الأمر أن السلطة العراقية والأحزاب التي تشكلت منها الحكومة لا زالت مصرة على مواقفها غير المسؤولة للتفريط بحقوق العراق ومصالح شعبه الوطنية.
وهناك الكثير من الأسرار التي لا تزال غامضة وستبقى كذلك حتى يفض القدر أمرها. ولا نعرف حتى الآن مدى حجم الدور السلبي الذي يلعبه بعض الساسة العراقيين في العديد من الملفات الاستراتيجية والوطنية الخطيرة التي ربما لن تبقي مستقبلا من العراق إلا خرائط للأجيال على ورق. وعلى ما يبدو أن الدور المركزي للحكومات المتعاقبة في العراق، لا زال يفتقر المعايير الملاءمة لقبول فكرة المساواة بين أبناء الشعب، وغريبة على المجتمع العراقي الذي تقابله بالازدراء ولا تقاوم الفساد ومنع نهب ثروات المواطنين...

AM:01:58:12/06/2025