"الحقّ في الديمقراطية" عربياً.. هل تبخّر الحلم؟
محمد أبو الغيط
تركّز تحليلاتٌ كثيرة تتناول الحرب الإيرانية الإسرائيلية، وما يرتبط بها من تورّط أميركي مباشر، على الزاوية العسكرية أو التوازنات الاستراتيجية في الإقليم: من سيملأ فراغ النفوذ الإيراني؟ ما شكل الإقليم الجديد الذي ترسمه إسرائيل بدعم أميركي؟ كيف ستعيد واشنطن تموضعها في ظل صعود الصين وروسيا؟ هذه كلها أسئلة مشروعة، لكن سؤالاً جوهرياً يغيب عنها، ربما كان الأكثر مساساً بمصير الشعوب في هذه المنطقة: ماذا تبقّى من الحلم الديمقراطي؟

هل بات من الممكن القول إنّ ما جرى منذ هجوم "طوفان الأقصى" قبل أقلّ من عامين، وتداعيات الحرب الإيرانية الأميركية الجارية، قد باعد أكثر فأكثر بين العرب والحق في الديمقراطية والحرية؟ هل سنشهد مزيداً من صعود المنظور الأمني بوصفه الإطار الحاكم للسياسات والنقاشات والنظم؟ أم ستكون هذه المرحلة الحرجة مناسبة لإعادة طرح مطلب الديمقراطية باعتباره ضمانة للكرامة والسيادة وليس خطراً عليهما؟... بين الطائرات المسيّرة، وضرب المنشآت النووية، وصراع المحاور، يختفي سؤال الحرية، وكأنّه لم يكن أصل الأزمة في هذه المنطقة منذ البداية.

قبل أكثر من عقد، خرجت شعوب المنطقة في موجة أولى من "الربيع العربي"، مطالبة بالحرية والعدالة والديمقراطية، ثم أعادت الكرّة في موجة ثانية عام 2019 في بلدان مثل الجزائر والعراق ولبنان والسودان، بشعارات بدا فيها وعي جديد وثقة أكثر واقعية. ومع ذلك، انتهت الموجتان تقريباً إلى النتائج نفسها: نظم متصلّبة، انقلابات مقنّعة، تجريف للحراكات، وعودة أشد قسوة لمنطق "الأمن أولاً".

لم يكن التحوّل فقط داخليّاً، بل كان الخارجي أكثر وقعاً. فالإدارة الأميركية منذ عهد ترامب، رفعت الغطاء السياسي والأخلاقي عن الديمقراطية قيمة في سياستها الخارجية، وبدأت التعامل مع الشرق الأوسط من زاوية صفقات وتسويات وقواعد وردع. لم تعد واشنطن حتى تُحسن التظاهر بأنها تدعم التحوّل الديمقراطي. أما أوروبا، فغارقةٌ في صعود اليمين القومي والانكفاء الداخلي. لقد أُغلقت النوافذ التي كانت الشعوب تنظر منها، ذات يوم، نحو العالم بوصفه شريكاً في الحلم.

في هذا المشهد، بدا أن الديمقراطية لم تعد مطروحة حتى على مستوى الخطاب، لا من الأنظمة ولا من الحلفاء الدوليين. والمفارقة أن الحرب الإيرانية – الإسرائيلية – الأميركية جاءت لتُرسّخ هذا الإغلاق، فالمنطقة تُدار الآن بأدوات القوة الخشنة، بتوازنات الردع والتحالفات العسكرية، بينما يُهمّش البعد السياسي والاجتماعي تماماً. من يتحدّث اليوم عن حكم القانون في ظل الانفجارات الكبرى؟ من يناقش الحريات السياسية، بينما تتبادل القوى الإقليمية الضربات بصواريخ دقيقة وبتقنيات استخبارية عابرة للحدود؟


الأخطر أن هذه التحولات تركت أثرها في الداخل العربي، لا على الأنظمة فحسب، بل في وعي الشعوب نفسها، فجيل 2011، الذي كان يؤمن بأن الثورة ممكنة، وأن الشارع يغيّر، بات اليوم يتنقل بين المنافي، أو منكفئاً عن الشأن العام، أو تائهاً في أزماته المعيشية. الرموز التي كانت تُعد ملهمة، من مصر إلى تونس وسورية واليمن، تحوّلت إلى علامات على الإخفاق أكثر منها على النجاح.

حتى الموجة الثانية من الحراك، التي بدت أكثر نضجاً وأقل رومانسية، انتهت إلى تسويات جزئية أو صدامات مفتوحة، كما في السودان ولبنان. أما الجيل الجديد، فيبدو أكثر حذراً، أقلّ اندفاعاً، وأشد ارتباكاً بين أولويات البقاء الاقتصادي وغياب الثقة بأي مشروع سياسي. استبدلت قطاعات واسعة من الشباب العربي خطاب الحرية بخطاب "النجاة"، وباتت الأحلام الكبيرة تبدو رفاهية لا يقدر عليها أحد.

هل ما زالت الديمقراطية مشروعاً عربيّاً حيّاً؟ أم أصبحت في عداد الأموات؟ ربما لا يمكن الجزم تماماً بموتها، لكن الأكيد أنها اليوم في حالة موتٍ سريري. لا أحد يرفع رايتها، لا الداخل الذي أنهكته أزماته، ولا الخارج الذي تخلّى عن وعوده. في زمن الطائرات المسيّرة، والحصار الاقتصادي، والاصطفافات الصلبة، يبدو أن زمن السياسة قد انسحب، ومعه أُغلقت النوافذ على أي حلم قابل للعيش.


AM:03:54:29/06/2025