لم يكن مشهد حريق الهايبر ماركت في الكوت قبل يومين مختلفًا كثيرًا عن قاعة الأعراس في الحمدانية، ولا عن عبّارة الموصل، ولا حتى عن مستشفى الإمام الحسين في الناصرية، مجرّد اختلاف في المواقع والأسماء، لكن الدخان ذاته يتصاعد من جثث الأبرياء، وصدى الألم يعيد نفسه، وفي كل مرة يكون الأطفال أول الضحايا وآخر من يُنسى. أما النتيجة، فهي واحدة، مئات، إن لم يكن الآلاف، قضوا حياتهم ليس بسبب حرب أو إرهاب، بل نتيجة غياب شروط السلامة، أو خطأ بشري، أو ملف فساد مؤجَّل.
هذه الكوارث لا تُصنع في لحظتها، ولا تُذوبها لجان تحقيق، ولا تُسوَّف نتائجها ببراءة، إنها تُصنع على مهل، بفعل سلسلة من الإهمال، والفساد، والتواطؤ، تتعدد دوافعها وتفترق خلفياتها، لكنها تلتقي دائمًا في صناعة الكارثة.
جشع ما بعد داعش
تصاعد الكوارث في العراق لم يكن مصادفة، ولا تكرارها بعد داعش محض عبث، ففي مراجعة بسيطة لمأساة حريق الكوت، نجد أن هذه النكبة لم تكن الأولى، بل تأتي في سياق سلسلة من الأحداث المأساوية، لا يقلّ عددها عن خمس كوارث كبرى، كل واحدة أشد إيلامًا من سابقتها.
في بلدٍ ذاق ما ذاق من ويلات الحروب، كان من المفترض أن تكون مرحلة ما بعد داعش نقطة انطلاق لإصلاح الدولة، وبداية حقيقية لإعادة الإعمار، وأن تنشغل الدولة بإعادة تأهيل المستشفيات، والمدارس، والبنى التحتية، ومراكز السلامة، وإعادة تقييم أهمية الإنسان إثر هذه الأهوال، وإدراك قيمة الحياة.
لكن ما حصل هو إعادة تأهيل الفساد، حيث غابت المعايير، واستُبدلت الكفاءات بالولاءات، وفتحت الأبواب لتراخيص بلا رقابة، وبناء عشوائي، ومشاريع مغشوشة لا تصمد أمام عود ثقاب، لتشبع طبقات أدمنت شهوة المال والسلطة التي لم تعد حكرًا على بعض الأحزاب أو الجماعات من الجيل الاول، وكأن النصر على داعش فتح شهية الجميع، فغدت الدولة سوقًا، والشعب خزينة سائبة، والوزارات مزارع حزبية.
ومع مرور الوقت، صار كل شيء معروضًا للبيع العقود، الرخص، المقاولات، وحتى بات اقتسام الثروات ونهب المال العام أمرًا علنيًا، وعلى مرأى ومسمع الجميع، حيث تُباع المقاولات وتُعلن العقود والموافقات على مجموعات الواتساب وكأنها بورصة مفتوحة، تُحدَّد فيها النِسَب مسبقًا.
ومن هذه الأرضية المسمومة، لا عجب أن ينبت الفساد الاقتصادي وتولد الكارثة، إذ أصبح من شبه المستحيل إنجاز معاملة تجارية أو استثمارية في العراق دون أن يطالبك الموظف البسيط برشوة مقابل توقيع روتيني، ودون أن ينتظر المسؤول الكبير نسبته فيما تقتطع الجهات النافذة حصّتها علنًا من كل عقد.
فالفساد تحوّل إلى بوابة إلزامية لأي نشاط اقتصادي، مهما كانت بساطته أو نزاهته، حيث لا فرق إن كنت مستثمرًا شريفًا أو شابًا يسعى إلى بداية صغيرة؛ المهم أن تعرف من تُرضي، وكم تدفع، أما في المشاريع الكبرى، فأغلبها مشاريع تُدار بأموال مشبوهة، لا يُعرّفها الاقتصاد، بل تُسوّقها الفاشنستيات على أنها نجاحات وطنية.
ثقافة الموت أرضية للكارثة
في مجتمع ذاق أقسى أشكال الموت وأكثرها انحطاطًا، من تفجيرات الأسواق والاغتيالات، إلى الأسلحة المحرمة دوليًا، وانتهاءً بالنحر على يد التنظيمات المتطرفة، تحوّلت مفاهيم السلامة المهنية إلى ترفٍ غير ضروري، وصارت اللامبالاة سلوكًا متجذرًا في المجتمع، وثابتًا في منهج إدارة الدولة.
ثقافة الموت لم تكن مجرد تراكمٍ للمآسي، بل شكلت البيئة الحاضنة التي سمحت لثقافة الفساد أن تتغلغل وتشرعن صناعة الكارثة، إذ منحت الغطاء للجشع، حتى غدت التجارة بالأرواح والصحة العامة أمرًا اعتياديًا. فالصمت أو التواطؤ في ملفات فساد خطيرة ومهددة للحياة من فساد المقاولات إلى تهريب البضائع، ومن عبث المنافذ الحدودية إلى تفشي المخدرات، فضلاً عما يجري خلف الكواليس من جرائم في مجال الأدوية والغذاء وكيفية تهريبها وتخزينها وبيعها لم يعد يثير الغضب، ولا يُحرّك الضمير، ما دام لا يتحوّل إلى مادة للمزايدة، أو ذريعة لحمل السلاح ونهب المال.
ولم يتوقف أثر هذه الثقافة على المؤسسات فقط، بل امتد حتى إلى سلوك الأفراد، حيث يتجلّى بوضوح في عبارات مثل "يلا عادي”، و”الله كريم”، و”كلاوت”. ليست هذه الكلمات مجرد تعابير عابرة، بل مفاهيم تختصر مدى تغلغل ثقافة الاستهانة والتهاون، حتى تحوّلت إلى عقيدة غير معلنة، تبرّر المعامل الصناعية والشركات التجارية، وحتى أبسط المشاريع، تقصيرها، وكما يبرّر بها الأفراد خضوعهم واستسلامهم.
أقولها من واقع تجربة، فقد عملت في مشاريع وقطاعات عديدة طوال مسيرتي المهنية، ولا يتعدى مفهوم السلامة المهنية في كثير من الأحيان كونه إجراءات روتينية إن وُجدت، وغالبًا ما يُفهم بشكل خاطئ على أنه ضعف أو "جبن”. لذلك، أصبح الحفاظ على حياة الآخرين وسلامتهم يُعتبر "عيبًا”، بحجة أن "الرجال لا يخافون”.
القيم الملوثة وانهيار الضمير الجمعي
بصراحة هذه الحوادث ليست شاهداً على مستوى الفساد بكل اشكاله انما هي أيضا شواهد حية على انهيار منظومةٍ بأكملها؛ تفككت فيها القيم قبل أن تسقط الجدران، وتلاشى فيها الضمير قبل أن يتصاعد الدخان، من فاجعة العبّارة في الموصل، إلى مستشفى ابن الخطيب في بغداد، ثم مستشفى الإمام الحسين في الناصرية، فقاعة الأعراس في الحمدانية، وأخيرًا الهايبر ماركت في الكوت، ليست أسماء لحوادث متفرقة، بل علامات على مسار واحد يؤكد حجم الانهيار الأخلاقي قبل الإداري، والتواطؤ العام قبل الخلل الفني، فالعطب لم يكن يومًا في البُنى التحتية فقط، بل في الذي خطّط، ووقّع، وتجاهل، وتواطأ بالصمت أو بالتبرير، فكيف ننتظر أن تُبنى عمارة آمنة، إن كانت القيم التي تديرها قد تهالكت؟ وكيف نحلم بدولة تنهض من تحت الركام، فيما ضميرها الجمعي إما غائب أو مغيَّب عمداً؟
فالبناء الحقيقي لا يبدأ من الإسمنت والحديد، بل من الإنسان، من ضميره، من إحساسه بالمسؤولية، من التزامه غير القابل للمساومة بالمصلحة العامة، قبل أن نضع حجر الأساس لأي مشروع، نحن بحاجة إلى ترميم الإنسان الذي يضعه.
فلنُجرّب هذه المرّة ألّا نمرّر الكارثة كما تمرّ الريح في بلادٍ اعتادت على المقابر الجماعية، لنجرب، ولو لمرة واحدة، أن نرفع الصوت بالسؤال لا بالصراخ لماذا أصبح الدم رخيصًا إلى هذا الحد؟ وإذا كان كل هذا الموت لم يُعلّمنا قيمة الحياة، فبأي درسٍ آخر سنتعلّمها؟
ثم لنبدأ بطرح الأسئلة الروتينية، قبل أن تُدفن في اليوم السابع من العزاء، أين لجان التحقيق التي وُعدنا بها؟ ومن أعطى الموافقة؟ لعلنا نحصل على إجابة تُنصف هذه الأرواح البريئة، في بلدٍ يتضاءل فيه الإنسان يومًا بعد يوم، حتى يكاد يختفي تمامًا.
ولنعترف، بلا مواربة، قبل أن تحل كارثة أخرى، أن وراء كل ملف فساد مأساة اجتماعية مدفونة، وأن قرب كل كارثة، هناك منظومة قيمية مهملة أو متواطئة بصمت بارد، ولنُدرك أيضًا أن خلف كل صفقة مشبوهة تقف يد فاسدة، خلفها دمعة أم، وثكل أب، ويُتم طفل، محصلتها ثمن باهض يدفعه أبرياء لا ذنب لهم سوى وقوعهم في دوامة هذه المنظومة الفاسدة.