رسالة إلى المرجع السيستاني
علي المدن
سماحة المرجع الديني الأعلى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظلكم الوارف)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
لقد كان تعديل قانون الأحوال الشخصية رقم (1) لسنة (2025م)، وما نتج عنه من "مدونة الأحوال الشخصية وفقا للمذهب الجعفري" التي صُوّت عليها البرلمان بنحو عجول بتاريخ (27 / 8 / 2025م)، موضع نقد واسع من قبل جمهور كبير من الكُتّاب والباحثين والمختصين، وقد اتفقت آراؤهم جميعًا على أنّ هذا المشروع (تعديل القانون + المدونة) يلحق ضررًا بالغًا بالمصالح الوطنية العليا، فضلًا عن اشتماله على مخالفات دستورية متعدّدة. ومع ذلك، مضى أصحاب المشروع في تمريره بلا تردّد، بل وحظي بدعم رئاسة الجمهورية، التي كان يُنتظر منها الإصغاء إلى أصوات المعترضين، ثم جاء دعم القضاء ليزيد الأمر تعقيدًا.
لقد اعتاد العراقيون، مع الأسف، أن تُدار قضاياهم المصيرية من قبل بعض الفاعلين السياسيين والدينيين بقرارات متسرّعة وصلبة وأحادية، دون تريّث أو مراجعة أو اعتبار لدروس الماضي. وكانت نتيجة هذه السياسة الارتجالية الجسورة أثمانًا باهظة دفعها البلد في محطات تاريخية سابقة، ومع ذلك لا يبدو أنّ صانعي القرار اليوم قد وعوا الدرس، أو تحلّوا بالصبر والحكمة اللازمة.
وما يزيد الأمر خطورة أنّ المشروع الأخير قد زجّ اسم المرجعية العليا تحت عنوان "المرجع الديني الأعلى" في هذه المدونة، متخذا من هذا العنوان وسيلة ضغط لإسكات الأصوات المعارضة، وذلك استنادًا إلى ما يعرفه الجميع من تقدير العراقيين واحترامهم لهذا العنوان الكبير. قد يكون البعض فعل ذلك بدافع التزلف والنفعية، فيما فعله بعض آخر عن حسن نية وعدم استيعاب لحجم التداعيات. غير أنّ النتيجة واحدة: استغلال اسم المرجعية بما يضعها في قلب جدل دستوري وسياسي وقانوني داخلي ودولي كبير.
سماحة السيد الكريم؛
إنّ المرجعية، كما تؤكدون دائما بحق، ليست اسمًا لشخص بقدر ما هي عنوان رمزي جامع، أكبر من الأفراد والأسماء، يتمتع بتبجيل عميق في قلوب المؤمنين. وهي لأجل ذلك، وبسببه، مؤتمنة على قيم العدالة والإنصاف. وبخصوص العراق، حيث الحاضنة التاريخية الأعظم لهذه المرجعية، فإن المرجعية أمام واجب إضافي يتجاوز دورها الروحاني التقليدي، وهو واجب قانوني وسياسي، يتمثل في حفظ سيادة هذا البلد وصيانة استقلال مؤسساته الوطنية ورعاية وحدة أبنائه سياسيا واجتماعيا.
في ضوء ما تقدم، فإن من الجدير بالاعتبار التنويه على بعض النقاط المهمة المتعلقة بهذا المشروع (التعديل + المدونة)، والتي توضح بعض الجوانب الإشكالية فيه:
أولاً: أنه فسّر حق العراقيين بالتزامهم في أحوالهم الشخصية بمذاهبهم وأديانهم، والذي كان من الممكن أن يحصل في مدونة قانونية واحدة، إلى "فصل قانوني وهوياتي" في "مدونات" شخصية مستقلة تزيد من انقسام الشعب الواحد.
ثانياً: أنه قيّد حرية العراقيين في أحوالهم الشخصية، إذ من يختار "المدونة" يُلزَم بها إلى الأبد دون حق له بالتراجع أو التغيير.
ثالثاً: أنه منح الرجل حق استحداث التزام جديد، يتمثل في اختيار هذه المدونة أو تلك، يفرضه على المرأة (الزوجة) دون رضاها وخارج الاتفاق السابق الذي تعاقدا عليه عند الزواج.
رابعاً: أنه أسس "مجلسا علميا"، هو عبارة عن لجنة يختارها رئيس ديوان الوقف الشيعي، لا تكون قراراتها نافذة إلا بموافقته، ومع ذلك جعُل مرجعية للقضاء الذي يفترض أن يكون مستقلًّا.
خامساً: أن المجلس المذكور، وهو جهة غير منتخبة، تحول إلى سلطة تشريعية فيما لا نص فيه تتجاوز البرلمان.
سادساً: أن هذا المشروع أقر مبدأ "ضامن الجريرة" بنحو يلغي مبدأ المسؤولية الشخصية المنصوص عليه في الدستور، ويفرض تغييرات كبيرة في قانون العقوبات.
سابعاً: أنه أفسح المجال لجهة خاصة - تحت عنوان "المرجع" - لم يشترط فيها "الجنسية العراقية" لتكون قراراتها ملزمة للقضاء العراقي، بل وتمارس صلاحياته، وفي ذلك ما يتناقض مع السيادة القضائية الوطنية.
ثامناً: أنه ألزم القضاة العراقيين في موارد عديدة (في التطليق والتفريق والخلع والفقد والوصية والولاية والإرث) بالعودة إلى الجهة ذاتها، مدعيا (أي هذا المجلس) أنه الناهض بالتواصل بين الاثنين (القضاء والمرجع)، محولا القضاة بذلك إلى مجرد موظفين تنفيذيين.
سماحة السيد المبجّل،
إنّ خطورة هذا المشروع لا تقتصر على النقاط السابقة فقط، بل وتشمل أيضا، أنّه يؤسس لفكرة أن المرجعية شريك أساسي في مشروع "المدونة"، بل وأنها أعلى سلطة من القضاء الوطني، وهو أمر له تباعات كبيرة، سواء فيما يبقى من معنى "الدولة المدنية" التي كان سماحتكم – ومن خلال خطب صلاة الجمعة – أحد الداعين لها في السنوات الماضية، أو في "تقاسم مسؤولية الآثار الناجمة عن تطبيق هذه المدونة في المجال الاجتماعي"، وعلى الصعيدين الداخلي والدولي.
إنّ كلمة المرجعية في هذا الظرف الحساس لا تتعلق بمذهب أو طائفة، بل تتعلق بمستقبل العراق وأمنه الاجتماعي والدستوري، دولة وشعبا. وكما عهدناكم دائمًا صوتًا للحكمة والتروي، يحفظ الوحدة والسيادة الوطنية، ويرسخ من الحياة الدستورية والقانونية في دولة مدنية، فإنّ الناس بانتظار موقفكم الصريح الذي يضع حدًّا لهذا التوظيف لاسم المرجعية في غير موضعه، ويصون مكانتها من أن تتحوّل إلى أداة بيد الساسة أو الإدارات، تتحمل مسؤولية قراراتهم وما ينتج عنها من تداعيات.
هذا، وتقبلوا وافر الدعوات لكم بدوام الصحة والسلامة
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

AM:05:14:21/09/2025