نوال السعداوي بين النقائض
عبدالله البياري

في إحدى لقاءاته الإعلامية، إبّان فترة ترشحه لرئاسة منظمة اليونسكو، المعنية بالثقافة والفنون، استشهد وزير الثقافة المصري الأسبق، فاروق حسني، في ردّه على سؤال مضيفته الفرنسية عن إنجازاته في ميدان الثقافة، وتخوّله الترشّح للمنصب، بمنح الكاتب المصري سيد القمني جائزة الدولة التقديرية عن مجمل أعماله، وهو المتهم بالإساءة إلى النبي الكريم، في مجتمع "متديّن بطبعه" (!)، ومتابع للبرامج والقنوات الدينية، وتكثر في مساجده حلقات التدين السلفي، بل وباتت تلك المساجد تُخرج دعاة جددًا كل يوم، مفسرًا ذلك بأن "هذه هي الثقافة".

ذاك هو المشهد الأول الذي يحضرني في ظل موضوعنا الرئيس عن وفاة الكاتبة المصرية نوال السعداوي، وتعاملنا، نحن المجتمع العربي، معه. المشهد الثاني هو لشابٍ مصري تداولت وسائل الإعلام العالمية صورة له، لم يظهر فيها وجهه، لكنه ظهر وكأنه يرتدي بزّة رائد فضاء، يطير بها، حاملًا في يده قنبلة غاز، ليقذفها تجاه قوات الأمن، في المواجهات بين شباب الثورة وشاباتها وقوى الأمن المصرية في عام 2012. التقيته حينها في تلك المواجهات، وسألته عن تلك البزّة التي جعلته لا يُقهر في مواجهة قنابل الغاز التي استخدمتها قوى الأمن حينها باستراتيجية قتل، وليس تفريقًا. من أين أتى بها، كيف لنا أن نأتي بمثلها، أجابني ببساطة: "أنا اخترعتها". بالحديث معه، تبين أن الشاب مخترعٌ صغير، له براءات اختراع في اليابان وكندا والولايات المتحدة وغيرها. وحين استفسرت منه أكثر عن سبب وجوده في الميدان، وماذا يطلب، أجابني ببساطة أيضًا: "عايز أنجح في الجامعة، أنا بادرس هندسة ميكانيك (ميكاترونيكس) والدكتور مش عايز ينجّحني عشان مرة اختلفت معاه في الرأي"!، كان عمره حينها 21 عامًا.


جوقة رفعت نوال السعداوي إلى منزلة الشهداء والقدّيسين والأنبياء، وهي التي وقفت إلى جانب أنظمة ديكتاتورية وقمعية ودموية

المشهدان يفسّران دينامية الخطاب الثقافي الرسمي العربي تجاه رموز الثقافة ومضامينها وأشكالها. والرسمي هنا ليس الصادر فقط عن مؤسسات النظام العربي ورموزه، وإنما كذلك الذي تُصدره الأنظمة العربية بشكلٍ غير مباشر، بأن تقبله وتمرّره، مجتمعيًا، بل وترعاه.

لنعد إلى المشهد الأول.. فاروق حسني، بما يمثله، يتباهى بحالتين متطرّفتين في الفضاء العام، الثقافي والمجتمعي في مصر، حينها، باعتبارهما شاهده على انفتاح ذلك الفضاء. ولعل الأنظمة العربية ترعى هاتين الحالتين المتطرفتين المتناقضتين على مستوى الخطاب، لكن ليس على مستوى الممارسة، ولا النقد. ونعني المساحات البينية بين هذين النقيضين، فدولة فاروق حسني وثقافته رحبت بالقمني وخطابه، لكنها أغلقت كل الفضاءات التي تنقد بشكل يراكم معرفيًا هذا الطرح، وفتحت، في المقابل، مساحات التكفير والمطاردة والملاحقة، وكل من يؤسس لمحكمة تفتيش توزّع صكوك الغفران أو تمنعها، كما أنها رحبت واحتوت أشكالًا من الخطاب الديني، قيّد الدين وقصره في أشكال سيئة من الطقوس والخيالات الجنسية (إرضاع الكبير نموذجًا)، وحاصرت وضيّقت على أي شخصٍ يمارس نقدًا لها.

فرض الخطاب الثقافي العربي النظامي هذين النموذجين كنقائض، وأغلق المساحة النقدية بينهما، لا لشيءٍ سوى أن أزمة الأنظمة العربية مع الثقافة هي في فعل النقد. من هنا، يمكن تفسير تماهي هذين النقيضين مع الدولة في بطشها، بما يجعلهما توأمين وليسا نقيضين. القمني هلل لمذبحة ميدان رابعة العدوية، والسلفية في مصر هللت للرئيس "النبي" الآتي من الدم والديكتاتورية!

عرّت وفاة نوال السعداوي المشهد نفسه، مرة أخرى، بما يجعلنا نتخيل فاروق حسني (بات رمزًا للثقافة في دولة العسكر الآن، وشاهدًا على الثقافة، وليس متهمًا!) فرحًا بمدى "الثقافة" في تعاملنا مع إرث الراحلة. إذ انقسم الجمهور إلى النقائض نفسها التي بناها النظام المصري والعربي منذ عقود؛ بعضهم أخرج الراحلة من الملّة، ولعنها حيث ألقت؛ هالكةً في الهوالك، في استعراض من الخواء والسوء لا نهاية له، ولو كان باسم السماء. وعلى الضفة المقابلة، جوقة أخرى لا تختلف كثيرًا عن السابقة، رفعوها إلى منزلة الشهداء والقدّيسين والأنبياء، وهي التي وقفت إلى جانب أنظمة ديكتاتورية وقمعية ودموية.

أخرج بعضهم السعداوي من الملّة، ولعنها حيث ألقت؛ هالكةً في الهوالك، في استعراض من الخواء والسوء لا نهاية له

هذان النقيضان المتطابقان يذكراننا بخطاب تيارٍ ملحدٍ راكمه فشل الخطاب الديني، لا يملك حجّة موضوعية نقدية معرفية في إلحاده سوى فشل الخطاب الديني، معرّفًا أوحد لهويته، في مقابل تيار متديّن يصدر ثقافة المناظرات الأقرب إلى المبارزات، وليس إلى التفكير والجدل والنقد، فقط ليقف على جثة أحدهم، يستحضر دين الرحمة، ويتشفّى بالموت.

هنا أستعيد الشاب العشريني الذي خاطر بحياته، ولا أعلم أين هو، في دولةٍ تبني سجنًا كل شهر، فقط لينتزع حق التفكير والنقد والابتكار، وليس حق اتخاذ موقف خطابي سياسي، فقط. وأغلب الظن أنه إن مات فلن تلتفت له أيٌّ من الجوقتين، وأمثاله كثر. وللأسف أغلب الجوقتين الباكية والمهللة لوفاة السعداوي لم تراكم أي ممارسة نقدية و/ أو معرفية على إرثها، بل ولم تنادِ إلى ذلك، وليست معنيةً به. لقد انشغلت كلتا الجوقتين في التطابق من حيث الخواء، والضوضاء معًا. لم تأتِ أي منهما لبناء شكل نقدي مقارن، ولو من باب المراكمة على خطابها السياسي، بين السعداوي وكيشيا علي مثلًا، أو آمال قرامي، أو ألفة يوسف، أو رجاء بن سلامة، أو آمنة ودود، أو ريتا فرج، أو فاطمة المرنيسي، أو عائشة جسنجر، أو غيرهن، بل وحتى نقد مواقفهن السياسية. أتذكّر أحد القيمين على نادي قراءة في الأردن، حين طُلب منه تقديم قائمة كتاب وكاتبات عرب في الشأن النسوي العربي، كتب قائمة ضمن ثلاثة وثمانين اسمًا، ثمانون منهم ذكور لم يكتب أغلبهم في الشأن النسوي، وثلاث سيدات (فقط) منهن كانت السعداوي، وقال عنها إنها كافية للحديث عن النسوية!

ختامًا، لو قيّض لفاروق حسني الترشّح للمنصب، كان سيتقدّم ويعين هؤلاء كلهم في فريق علاقاته العامة؛ الثقافي. .. للأسف.


AM:03:22:25/03/2021