مأزق المخيّلة اللاهية
حجي جابر

ثمة عوائق نفسية -إذا جاز الوصف- تقف أمام الراغب في خوض مجال الكتابة الروائية للمرة الأولى، فتبعثر قدرته وثقته في إمكانية المضي قدما، ذلك لأنها، ورغم كونها جوّانية المصدر، فهي تبدو قادمة من الخارج، وبالتالي عصية على الحل والتجاوز دون عون براني.

ووفق هذا التصور هي إذًا مجموعة من حيل الذات الخداعة أكثر منها عقبات فعلية على الطريق، ولعل أشهر تلك الحيل النفسية العلاقة المفتعلة بين الكتابة الروائية والإلهام، بحيث غدا من العسير الفصل بينهما، وكأن الثانية هي شرط تحقق الأولى لا محالة.

نتج الإشكال -برأيي- ابتداء من تلك الهالة التي أحاط المبدعون بها أنفسهم ليغدو نتاجهم شاهقا غير مقدور على بلوغه، فهو كالوحي يهبط عليهم بعد أن يكون قد تخيرهم دون سواهم ومنحهم هذا الاصطفاء الإبداعي المبجل.

هذه الفكرة الموغلة في اللؤم تحبط كل رغبة جادة من قبل الآخرين الأقل حظا في الإتيان بشيء مشابه، ناهيك عن تجاوزه، ذلك لأن العمل وحده هنا لم يعد كافيا لبلوغ المأمول.

ولعل مصدّري هذه الفكرة عن أنفسهم يتعمدون التوقف عن هذا الحد من الحديث عن إبداعهم دون الذهاب إلى ما يتطلبه الأمر فعلا من كد ورهق كون هذا مما يمكن إتيانه لاقترانه بالحالة البشرية المتاحة أمام الجميع، فتجنيب فكرة الإلهام والتركيز على الاشتغال يضع الكل في مضمار سباق واحد بحيث ينطلقون من خط البداية نفسه، وهذا يخدش الذات المتضخمة للمتعلقين بستار الإلهام والاصطفاء.

ثم إذا ذهبنا قليلا مع هؤلاء في تمسكهم بجدوى وصلاحية فكرة الإلهام فإننا لا نملك التغاضي عن كونها محدودة الحضور، خاطفة كالومضة، تسارع إلى التلاشي إن لم يتم القبض عليها من فورها، ولها امتدادات في الواقع وإن لم يُحط بذلك.

وهي لا تتعلق بمجمل العمل الإبداعي بقدر ما تشير إلى طرفه أو تنبه على مفتتحه، فيما يقع العبء كله بعد ذلك على عاتق المبدع في إتمام العمل والوصول إلى كماله، وقديما قال ليوناردو دافنشي "إن "الآلهة" لتجود علينا عن طيب خاطر بمطلع قصيدتنا، ولكن علينا نحن من بعد أن نصوغ البيت الثاني".

يعرف المبدعون أن التوقف عند مرحلة الشعور والخواطر لا يصنع فنا، بل ويعرفون أن عموم الناس لديهم من تلك المشاعر ما قد يفوق، غير أن الفارق بين الطائفتين هو في الانتقال إلى مرحلة العمل الجاد.

اعلان
إن الاصطراع مع الفكرة الشاردة وتطويعها وتسخيرها هو ما ينقلها من خانة الهلاوس إلى خانة الفن، ذلك أن الفكرة في حالتها البدائية شديدة الهشاشة والرخاوة ولا تكاد تستقر على شكل، وما يجعلها في صورة الاكتمال هي تلك المطارق والأزاميل التي لا تكف تضرب وترسم حدودها ببراعة واقتدار.

يعرف المبدعون أيضا أن الفكرة العابرة قد تقود إلى غيرها لفرط كونها غير تامة وقاصرة، وهذا أمر قد لا يتم اكتشافه إلا بعد الذهاب بعيدا في العمل عليها وإنزالها من سماواتها الحالمة إلى أرض صلبة، ولهذا سبق لأحدهم أن قال إن الفن هو هذيان تم التغلب عليه.

ويعرف المبدعون أيضا أن التأمل بغية التقاط فكرة لافتة، ليس حالة من الشرود والكسل الذهني والانتظار، فيما يصفه المفكر المصري زكريا إبراهيم بالمخيلة اللاهية المتسكعة، وإنما هي حالة من الانتباه والحفر والملاحظة.

كل ذلك الضخ الكثيف في فكرة الإلهام أحاط الكتابة الروائية بسوار أنيق رومانسي وحالم وفرغها من متنها الشاق والمتعب، لهذا غدت فكرة معرفة طقوس الكتابة شغل الناس الشاغل، والسؤال الذي لا يملك أي روائي تجنبه مهما بذل.

وبقدر ما كان ذلك الضخ جاذبا لعالم الكتابة الروائية جاء صادما بمجرد اكتشافه، فكم ممن جاؤوا إلى عالم الرواية منقادين وراء تلك الصورة الزاهية ارتدّوا نافرين بمجرد معرفة العنت الساكن وراء ذلك الزهاء.

لم يكن كافيا إذًا ذلك المكتب الأنيق، والقهوة السوداء المُرّة، ودخان السجائر، والموسيقى الناعمة في الخلفية، لتحدث الكتابة من تلقاء نفسها، أو ليهبط الإلهام أسوة بما يحدث للمبدعين.

يا له من اكتشاف مزعج ذلك الذي يُظهر أن كل تلك التفاصيل لم تكن إلا قشورا لا نفع فيها في غياب الأساس، وأن الانتظار مجرد الانتظار ليس إلا حيلة للفرار والتجنب، وقد يطول إلى الأبد ما لم يقترن بالعمل الشاق، وهنا كم يبدو لافتا أن الروائي الكولومبي الكبير غابرييل غارسيا ماركيز كان يشبّه الكتابة بالنجارة، وليس -على سبيل المثال- بالترنم بشطر من أغنية عذبة تتدحرج من الذاكرة بشكل مباغت.


AM:05:48:08/04/2021