قناديل: الجنّة التي تطردُ مجدي يعقوب
لطفية الدليمي

هل جرّبتَ يوماً سماع طبيب القلوب الدكتور (السير) مجدي يعقوب وهو يتحدّثُ في حوار؟ إذا لم تكن قد فعلتَ من قبلُ فحاول سماع بعض لقاءاته الفديوية المتاحة على الشبكة العالمية. ستجدُ رجلاً يحُثُّ الخطى نحو التسعين؛ لكنه قويٌّ مثل فلّاح مصري صلب، يمتلك روحاً مكافحة لها القدرة على النحت في الصخر. يتحدّثُ بهدوء ومن غير تخريجات معقدة، مدفوعاً بطاقة هائلة من قدرة على العمل الجاد والمنظّم والمنضبط.

سيتساءلُ كثيرون:مالهذا التسعيني والعمل مع قلوب متعبة؟ ألم يكن الافضلَ له أن يمضي بقية عمره ملكاً وسط كلّ أسباب الراحة المتاحة له في أي مكان يختار في العالم؟ هو توقّف عن إجراء عمليات القلب لفترة قصيرة منتصف العقد الاول من القرن الحالي، ثم كسر هذا التوقف بالعودة إلى ممارسة تلك العمليات بوتيرة أسرع ممّا سبق، ثمّ إنطلق عام 2008 في تأسيس مركز أسوان لعمليات القلب – ذلك المركز الذي ركّز فيه على قلوب الاطفال وإن لم يغفل قلوب الكبار أيضاً. يُؤثَرُ عن الدكتور يعقوب إجراؤه أكثر من عشرين ألف عملية قلب من بينها عمليات إعتمدت تقنيات جديدة، وهو صاحب الرقم القياسي للمريض الذي زرع له قلباً وعاش أكثر من ثلاثين عاماً بعد ذلك الزرع. من عجائب قدرات هذا الرجل أنه يعتزمُ افتتاح مركز جديد لعمليات القلب في منطقة 6 أكتوبر المعروفة. هو - فضلاً عن كل هذه الانجازات العالمية التي توجتها تكريمات مرموقة – باحث عالمي بأعلى المستويات في ميدان طب القلب والفروع البحثية المتصلة به.

لماذا أتحدثُ عن السير مجدي يعقوب؟ لأنني قرأتُ في منشور فيسبوكي للطبيب والإعلامي المصري (الدكتور خالد منتصر) أنّ واحداً من أكثر الاسئلة تداولاً في صناديق الاسئلة الشرعية هو: هل سيدخل مجدي يعقوب الجنة؟ يقولونها هكذا، مجدي يعقوب من غير أي توصيف مهني أو تكريمي له، ويأتي الجواب من بعض شيوخ الفتاوى الفقهية قاطعاً كحد السيف: هو لن يدخل الجنة فحسب ؛ بل لن يشمّ رائحتها حتى من بعيد!!! السبب معروف بالطبع. إنه مسيحي كافر!!

يقول الدكتور خالد منتصر أنه كان ينتظر الدكتور يعقوب في لقاء تلفازي؛ لكن الدكتور تأخر أكثر من ساعة، وسادت الجلبة صالة الاستوديو. بعدها حضر يعقوب وقدّم فروض الاعتذار الواجبة، بصوته الخفيض وابتسامته الخجولة دوماً، قائلاً أنه كان منشغلاً بإجراء عملية قلب مستعجلة لأحد أمراء الجماعات الاسلامية الذي جيء به من السجن إلى مستشفى القلب الذي يديره يعقوب. هي الدنيا العجب حقاً. لو أنّ الدكتور مجدي وقع بيد هذا الامير تخيّلْ ماالذي يمكن أن يحصل؟

غريبٌ أمرنا و (عجيباتٌ ليالينا) كما يقول الجواهري. مالَكُمْ وأمر الجنة التي ستطردُ مجدي يعقوب من نعيمها وشمّ رائحتها؟ أنتم لستم أوصياء عليها. هل بات دخول الجنة وظيفة حصرية لكم؟

قد تثير هذه الحقيقة كثيراً من التساؤلات المزعجة والمؤلمة؛ لكنّ سؤالاً جوهرياً يكمنُ في القاع الفلسفي لجذر المعضلة: كيف نرى الاخلاقيات وماهي علاقتها بالدين؟ هل الاخلاقيات صناعة دينية؟ ولماذا يرادُ من الاديان أن تتحوّل لكتل بشرية تحكمها قوانين (الجماعة الناجية) على نفس الشاكلة التي شهدناها مع أحزاب منطقتنا العربية؟

قرأنا كثيراً عن مديري شركات أو مسؤولين تنفيذيين يابانيين أو كوريين جنوبيين تسببوا في أخطاء جرّت مشاكل مالية لشركاتهم. لم يكتف هؤلاء بالاستقالة وتعويض الخسائر كما يفعل الغربيون، ولم ينتظروا أن يحاكموا محاكمات قانونية عادلة ربما كانت ستضعهم في السجن سنوات أو أشهراً معدودات. آثروا أن ينتهوا معلقين بحبل لفّوه بأيديهم حول أعناقهم. هؤلاء المنتحرون لن يروا الجنة بحسب الآراء الدينية السائدة لدينا؛ لكن هل سيرى الجنة ويتنعّم بنعيمها المنتظر أولئك الفاسدون الذين لو أتيحت لهم الوسائل والقدرات لعلّبوا حتى الهواء وباعوه للناس بأغلى الاثمان؟

ثمّة في الفلسفة الاسلامية مقاربتان بشأن موضوعة الاخلاقيات (سمّها الاخلاق. لافرق في هذا الموضع): مقاربة تقول أنّ الاخلاقيات مطلوبة لذاتها؛ أي أننا نفعلها بغضّ النظر عن إرتباطاتها الجانبية بثواب وعقاب، وهذا مايتماثل مع الرؤية الفلسفية التي ترى أنّ الاخلاقيات يجب أن تكون نسقاً ميتافيزيقياً غير مرتبط بأي مشخصات مادية وإنما يُطلَبُ لذاته لأنه جميل مستطابٌ للنفس البشرية غير الملوثة. أما المقاربة الثانية فترى أنّ الاخلاقيات من مكمّلات الدين الصحيح، وأنّ المرء لايستقيم دينه وآخرته إلا بتطبيق الاخلاقيات المنصوص عليها في النصوص الدينية. بالطبع لن تنفع الاخلاقيات (وكلّ شواهد الأعمال النبيلة) مالم يلتزم المرء بحيثيات دينية حصرية في نطاق جماعته. هنا تتراجع الاخلاقيات لتكون هامشاً ملحقاً بالشرائط الدينية الاصولية.

يحضرني في هذا المقام الفيلسوف الاسكتلندي (ديفيد هيوم) الذي كتب عن (الدين الطبيعي Natural Religion) في كتاب ذائع له. الدين الطبيعي هنا ليس ديناً هو بعض صنائع الطبيعة بل هو دينٌ تستشفُّ أخلاقياته من داخلك وبما يجعل العالم مكاناً أفضل للعيش.

هذا هو العالم. كلّ شيء فيه يحتملُ أمراً ونقيضه معاً. كلّ الافكار يمكن أن تتصارع فيه. هكذا كان ولاأظنّ حاله سيتبدّلُ في زمن قريب. الامر الأكثر أهمية دوماً هو أن فضائل الاعمال تتقدم على الآراء الشخصية أو الجمعية السائدة مهما تغوّلت سطوتها، وأنّ المساهمة في تحسين حياة البشر هي الخصيصة العملية التي بها توزنُ أهمية الفرد وفضائله على الصعيدين الحقيقي والميتافيزيقي، وهذا هو المكافئ المفاهيمي للقول أنّ (المعاملات تتقدّمُ على العبادات) لأسباب كثيرة تصلح أن تكون ميداناً بحثياً معمّقاً تشتبك فيه فلسفة الدين بفلسفة المناشط المعرفية الواسعة.

أظنُّ أن السير مجدي يعقوب سيمضي في عمله النبيل، غير آبه بجنّة يظنُّ كارهوه أنها ستطرده.

هل تعتقدون أنّ جنّة لايشمُّ رائحتها مجدي يعقوب ولو من بعيد تستحقُّ أن تكون جنّة أعدّت للصالحين من البشر؟


AM:01:09:26/02/2023