تشرين الحدث والارادات والهوية
زهير الجزائري

المدى 

التظاهرة حين تمرّ بها أو تسير على حافتها تدعوك إلى داخلها، لا يمكن أن يكون كل هؤلاء على خطأ. شخصيًّا، رأيت التظاهرة لأول مرة عام ١٩٥٢ وكان عمري آنذاك تسعة أعوام. كنت أعرف بأن اثنين من أخوالي بين هذا الحشد من الملثّمين الذين يسيرون بخطوات ثابتة نحو الخطر الذي يترصّدهم. في مدينة النجف التي حُرّمت فيها السينما، تجسّدت البطولةُ في ذهني بالسائرين في هذا الحشد.

لم أكن أعرف أن قلوبهم تدقّ من الرهبة وهم يقطعون مسافة الأرض الحرام بينهم وبين قوات الشرطة. في عام ١٩٥٦ شاركت في التظاهرة وكنت بين الأصغر فيها. جرّني الحشد فنسيت خوفي ونفسي الخائفة، نسيت حتى تحذير والدي الديموقراطي:

حتى لو شاركت، لا تتهوّر وتذهب إلى المقدمة!شاركت بعد تعبئة طويلة الأمد قامت بها أحزاب مختلفة؛ شيوعيون، قوميون، وديموقراطيون هزّهم العدوان الثلاثي على مصر وموقف حكومتنا المتخاذلة منه. الرغبة في الإجماع والتعبئة حرّكت الأحزاب. أنا عبّأني أخوالي الشيوعيون. ونحن في طريقنا إلى مركز التجمّع في الصحن العلوي بعد صلاة المغرب، علّمني خالي فنّ الهتاف «قصير وواضح ومفهوم ثم تنتهي بالنداء»: يا… سيقولون: يعيش أو يسقط! كررها ثلاث مرات! علمني ورفعني على كتفه فهتفت وعمري آنذاك أقل من أربعة عشر عامًا. البطولة تجسّدت في هذا القلب الذي ينبض بقوة. نقاوم خوفنا ونحن نتجه إلى نقطة الصدام حيث المتاريس التي تقف خلفها «القوة السيارة» والأصابع على زناد البندقية استعدادًا لإطلاق النار. لحظات التوتر هذه علمتني كم من الإرادة يحتاج المتظاهر ليتقدم خطوة.

عندما كبرت تعلمت بأن الأحزاب هي التي تحرك التظاهرات. يبلّغنا كادرُها المحترف دواعي التظاهرة وموعدها ونقطة التجمع وموعد الانطلاق وماهي الهتافات وما إذا كانت التظاهرة سلمية أو صدامية. هندسة التظاهرة تتشكل وفق الضبط الحزبي، شبيهة بالطابور العسكري وفي المقدمة ممثل الحزب أو ممثلو الأحزاب حسب وزنها السياسي. الأحزاب تعلّم، وتضع الشعارات وتحدد المسار ويمشي قادتها في المقدمة وخلفهم الجمهور.

أولادنا خرقوا هذه التراتبية الحزبية لأنهم تعلموا من تجربتهم الشكَّ بنوايا الأحزاب الساعية إلى السلطة. صلاتهم لا تتجه إلى فوق، ولا تخضع للتراتبية الحزبية، بل تذهب أفقيًّا إلى زملاء المدرسة أو المحلة حيث يجري النقاش بالندّية المتساوية والحيرة المتداخلة، ثم يأتي القرار من الذات: نذهب، أم لا نذهب؟ مظالمهم مختلفة حدّ التنافر، بينهم من يريد حصة في ريع الدولة، بينما يعتبر آخرون الريعَ رشوةً من فوق لقبول عبودية السلطة.

مرةً كنا نعبر البوسفور على ظهر سفينة بيضاء. النوارس تحلّق فوقنا في دوائر، تترقب غفلتنا لتنقضّ على الطعام في أيدينا. عيني متعلقة بالضفة الآسيوية حين سمعت من يناديني «أستاذ؟». التفتّ فوجدت معمّمًا خمسينيًّا أعرف أنه عضو في مجلس النواب وهو قيادي في حزب حاكم.

فتح النقاش:

قرأت مقالتك الأخيرة وأريد أن أبيّن لك أنك واهم باعتمادك على استقصاءات الرأي التي تقول إن شعبيتنا انخفضت بمقدار ٤٠٪.

إذن أنت لا تؤمن باستقصاءات الرأي؟

لا. هذه من خدع الحملات التي تسبق الانتخابات.

بمَ تؤمن إذن، ولمَ أنت واثق من صحة تقديراتك؟

المواكب الحسينية. تعال وشاهد بنفسك تدفّق الملايين.في الأعوام الأولى بعد ٢٠٠٣، كان هناك شعور بأن الهوية الطائفية هي التي تجمع الرعيّة مع ممثليها، ولدى الشيعة بالتحديد امتداد تاريخي يرجع إلى مظلومية الحسين. أحزاب الإسلام السياسي سوّقت نفسها بتأبيد المظلومية على أنها لا تمثل جمهورها سياسيًّا فقط، وإنما دينيًّا أيضًا. ويتجلى ذلك عمليًّا في التقارب الشكلي بين الممارسين والخاضعين خلال الزيارات الأربعينية. ينزع السياسيون الشيعة ملابسهم الإفرنجية ويرتدون ملابس «الزوار» الزاهدة. يغادرون جدران المنطقة الخضراء وينزلون مع رعاياهم سيرًا على الأقدام ويوزّعون الطعام بأيديهم على الزوار. يقدمون أنفسهم كممثلين دينيين وسياسيين للطائفة التي انتخبتهم.

خلال المسير وقبيل مرأى القباب الذهبية، يلتفتون إلى الخلف، ومن فوق أكتاف حماياتهم إلى الحشد الممتد خلفهم والسائر أمامهم إلى كربلاء فيبتسمون بخيلاء: هذا جمهورنا!

إصرار السلطة على نهج المحاصصة الإثنية والطائفية، كما يوضّح الباحث د. حارث الحسن، «أسهم في مأسسة وتطبيع الاختلافات الهوياتية لتصبح سياسية، لكنه عجز عن التعامل مع الانقسامات الأفقية الصاعدة على أسس اجتماعية اقتصادية، بالدرجة الأساس، بحيث تكرست الفجوة بين لغة النظام وآليّاته من جهة، والديناميات المجتمعية من جهة، فعطّلت قدرة النظام على الاستجابة الكفوءة للتحديات التي تفرضها تلك الديناميات». الاحتجاج بكل رموزه بدأ وتوسّع في مناطق الغالبية الشيعية وضد سلطة شيعية في الغالب. في بيروت وقريبًا من البحر، حضرتُ اجتماعًا ضمّ ناشطين عراقيين ولبنانيين. عندما حدد الشاعر فارس حرام الاحتجاجات في المناطق الشيعية — النجف كربلاء الناصرية، العمارة، البصرة — تنبّه ناشط لبناني إلى غرابة الواقعة:

هذا لم يحدث عندنا!الاحتجاجات تركزت إلى حد كبير في مناطق الغالبيات الشيعية الأكثر فقرًا. وعبّرت عن تمرّد على الاختزالات الطائفية وعن التوق لفضاء هوياتي مغاير بقيم مختلفة. لكنّ ثقافة الطائفة لم تكن غائبة عن أجواء الاحتجاج. كثيرٌ من تقاليد المواكب الحسينية انبثّت في فضاء الساحة. الخيام المنصوبة في العراء كأنها وُضعت لاستقبال زوار قطعوا مسافات طويلة. بعض الخيام تحمل أسماء المواكب الحسينية. قدور الطبخ الكبيرة المنتشرة في الساحة تقدم الطعام مجانًا وللثواب على الطريقة الحسينية. تمجيد الشهداء بحمل نعوشهم وتدويرها في الساحة وتشبيههم بالشهيد الحسين. إيقاع الهتافات يشبه إيقاع «الردّات» الحسينية. صور الحسين وأعلامه موجودة في الساحة مع صور غيفارا والأعلام العراقية. لكن كل هذه الرموز في النهاية موجّهة ضد حكم الطائفة. قصة الحسين هنا ليست حكاية عن المظلومية الأبدية التي يتذرّع بها الحاكمون، ليست حكاية للبكاء، إنما أَوّلَها المتظاهرون إلى حكاية ثورة على الظلم كما توضّح أكثر من لافتة في الساحة. هجوم القوات العسكرية والمليشيات على مواقع الاعتصام وحرق الخيام يشبه هجوم جيش يزيد على مخيم الحسين في كربلاء.

أعيد تأويل حكايات الماضي بمعنيين مختلفين لتفسير الحاضر: مرويّة السلطة حول المظلومية الأبدية التي توحّد الطائفة بحكامها ومحكوميها، مقابل مرويّة المتظاهرين التي تعكس الظلم في تغيّره، فالظلم عابر للطوائف كما يرينا الواقع الحالي، ولذلك توجهت ثورتهم ضد حكم الطائفة التي لم تعد تمثلهم لا دينيًّا، ولا سياسيًّا. الظلم الشخصي هنا، حقيقيًّا كان أو متخيلاً، يلعب دورًا في تأجيج الغضب. والأعداد الكبيرة تضفي شرعية على الاحتجاج في مقابل شرعية السلطة التي اكتسبت شرعيتها من خلال انتخابات مطعون بشرعيتها. تشير تقارير السلطة نفسها إلى أن نسبة المشاركة في آخر انتخابات تراوحت بين ٤٠ و٤٥٪ من الناخبين، في حين يقلل المقاطعون النسبة إلى ٢٠٪.

في الساحة، ومن خلال الجمع، أعاد الفرد المحتجّ تعريف هويته فأصبحت الهوية الاجتماعية أكثر بروزًا من الهوية الشخصية. وبدلاً من تحديد هويته بما يجعله مختلفًا عن الآخرين؛ السني مقابل الشيعي، المسلم مقابل المسيحي، المتدين مقابل الملحد، العربي مقابل الكردي؛ صار يعرّفها بما يجعلها متطابقة مع الآخرين الذين يشاركونه الهدف والمصير في مواجهة الآخر، وتحوّلت «الأنا» إلى «نحن»، وترافق التماهي مع الآخرين بوعي بالتشابه والمصير المشترك مع أولئك الذين ينتمون إلى الفئة نفسها. وعندما يتغير تعريف الذات من الشخصية إلى الهوية الاجتماعية، يصبح معيار المجموعة للمشاركة بارزًا، وكلما زاد تعريف الفرد بالمجموعة، زاد الوزن الذي ستحمله معايير المجموعة وزاد الأمر «التزامًا داخليًّا بالمشاركة نيابةً عن المجموعة» كنقطة انطلاق «للهوية المسيّسة». وتصف المتظاهرة والمسعفة سارة، وهي صيدلانية من مواليد ١٩٩٥، خلال حديثي إليها في «ساحة التحرير»، هذا الشعور المشترك بالهوية: «أصبح بيني وبين هذا المكان (ساحة التحرير) ارتباط قوي مصدره ما رأيته ولمسْته من تعاون وألفة وتكاتف بين أشخاص لا يعرف بعضهم بعضًا، ولا تربط بينهم أي صلة اجتماعية، ومع ذلك هم متكاتفون، واحدهم يتمنى للثاني الخير ويحميه ويحافظ عليه». فيما نقل لي الدكتور أحمد الغراوي، وهو طبيب من بغداد في الثلاثين من العمر: هناك تلاحم وتكاتف يتجاوزان الاختلافات الطائفية والدينية فبيننا المسيحي والسني والكردي والشيعي، وأهم ما حقّقناه في تظاهراتنا هو القضاء على الطائفية، وهذا أكثر ما سيغضب الحكومة والطبقة السياسية التي استطاعت أن تقبض على زمام الحكم من خلال اعتمادها على تطييف المجتمع وانقسامه.

كثرة اجتماعات الحكومة والبرلمان، الاستعجال في تمرير قرارات كانت نائمة على الرفوف، كثرة الانشقاقات داخل الكتل الحاكمة، الارتباك بين الوعود وإمكانية التحقق، المزايدات وتملق بعض المتظاهرين، استقالة رئيس الوزراء المعيّن عادل عبد المهدي، تقديم موعد الانتخابات المقبلة، تغيير قانون الانتخابات، الأحزاب والقوى الموالية لإيران وصعود مرشحي التشرينيين — كل ذلك ناتجٌ عرضي للأزمة التي خلقها وجود المتظاهرين العنيد في الساحة، هذا الوجود الذي يجمع كثرةَ العدد وإجماعَ الإرادات، أشعرهم بأنهم مواطنون وليسوا رعايا، مساهمون في صناعة تاريخهم وتاريخ البلد. ٩٧٪ منهم يرون أن مشاركتهم جعلتهم أكثر افتخارًا بأنهم عراقيون، حسب استطلاع أجرته مؤسسة (الرواق).

AM:04:20:07/09/2022