الكتابة سري وضميري
سعاد الجزائري


من السهل ان تروي الحدث لكن من العسير جدا ان تشرح او توضح فكرتك..

لا أعير إهتماما كبيرا للكيفية التي أرتب بها واقولب مكعبات عقلي وسلوكي وفقا لما يريده الاخر، او لذوقه المتقلب والمتغير بسرعة تفوق سرعة تغيير ملابسه، لاني وفقا لطبيعتي أسير خلف قناعتي وعفويتي سواء في الحياة أو في الكتابة، التي أعتبرها عالمي الخاص جدا وبوابة كشف أسراري، والنافذة المعنية برؤيتي للحياة والتفافاتها وهلوساتها والتي صارت عملة في سوق النقد والمضاربات، وفي متاجر الافكار..

الكتابة أي كان مستواها، تعبير عن شعور خاص جدا ازاء حالة ما، قد تعني هذا القارىء ويراها كأنه نصه المعبر عن مكنونه، أو عن روحه، وقد يراها الاخر تافهة ودون مستوى القراءة، ليس ذلك فقط، وإنما دون مستوى النشر الذي أصبح متاحا للجميع دون استثناء، وقد يراها البعض الثالث بين هذا وذاك..

الأغلبية، وانا منهم، أكتب هذياني دون أن أضع نصب عيني (قالبا كتابيّا)، أو وفقا لقانون موضوع مسبقا وعلينا التقيّد ببنوده، حتى وأن كنا معه أو ضده، بل أنا انساق وراء ما تقوله عاطفتي وما تتلمسه وتستشعره يدي او بما يمليه عليّ احساسي الأنساني والروحي والجسدي، وهذا حقي الوحيد بهذه الحياة..

المعرفة او الابداع المشروط بقيود وضوابط تتحكم بنا تقودنا تدريجيا الى نكران كل حس إنساني لنتحول الى عقل ميكانيكي تسيّره قوانين وضعها البعض واستغربها القسم الاخر، لكنها في النهاية ككل ظاهرة غير معتادة تواجهها عواصف الأعتراض ثم تهدأ تدريجيا لتتحول لاحقا الى أمر معتاد وطبيعي. قوانين الكتابة والحكم على مستواها، تتغير دائما وفق معايير الزمن، وهنا يحضرني التغيير الذي أحدثه الراحل الكبير محمد سعيد الصكار عندما أجرى تغييرا بالحروف العربية، وفق رؤيته الابداعية، مما أدى الى اعتبار تغييره هذا جريمة حوسب عليها وأدت الى حكمه، وقتذاك، بالسجن، لكن حروفه تلك أو (جريمته)، أصبحت لاحقا الحروف العربية المعتمدة في انظمة الكومبيوتر العالمية..

يهرب العالم والعبقري، عندما تضيق به الحياة، وعندما تستحوذ معرفته وتعقيداتها على إنسانيته وشعوره الطفولي الفطري، حيث تراه يركض كطفل الى الطبيعة، الى الشعور البكر بعيدا عن مكائن العقل وتعقيداته، بهذه الحرية في الاختيار تكمن خصوصية الانسان التي نعبر عنها بطرق مختلفة، والكتابة احدها.

[ ] اريد لكتابتي أن تنبع من هذا الاحساس البكر، ولا أسعى الى تشكيلات لغوية او أفكار لولبية كي أثير حيرة الاخر، بل أريد لكتابتي - نفسي أن تكون سهلة، سلسلة، ومرنة لأدخل وأتشارك مع قارئي بعواطفنا، لنكتب النص معا ونتبادل هواجسنا وأسرارنا، لأني أسعى للاقتراب الروحي بيننا، عبر ملامسة الكلمات ونسجها مع عاطفة غير خاضعة لقانون النحو والاعراب وتصريف الافعال، ولا يمر عبر تعقيدات العقل وأجهزته التي قولبت الأجساد والافكار وأفرغتها من أحاسيسها وقربتنا من موتنا الحسي والعاطفي...

البعض يكتب لكي ينصهر ويذوب في بحيرة الاخرين، والبعض الاخر يكتب لكي ينأى ويعلو على الاخرين، وهناك من يكتب كي يكون عصيا على فهم الاخرين، لأن ماكنة عقله تنتج السطور لذاته فقط، أو للنخبة التي لا تفهم بعضها البعض احيانا...

الكل يكتب وينتج ولكل بضاعة سوقها ومريديها، والعبرة لا تكمن في سوق العرض والطلب او التطبيل، بل بمن يقترب من الاخر ثم ينصهر معه، فلا نفسد بضاعة غيرنا، لأن سوق الكلمات تجارة غير رابحة، لا زيادة الطلب يرفع سعرها ولا كثرة العرض تجعلها أرخص سعرا، انها بضاعة خاضعة لاعلانها التجاري: (اشتري حاجة والثانية مجانا(....

ولهذا جلست على قارعة رصيف الكتابة، وفرشت عباءة روحي لأنثر عليها بضاعتي؛ قصة منسية، خاطرة مغموسة بوجع جرح لا يندمل، او منقوعة بدمع الحزن، أو أعرض نصا نثريا غير خاضع لشروط تجنيس الكتابة، أكشف به سري الذي ينطفىء مع ضوء النهار كي لا ينكشف ويختفي بين ظلام الليل خائفا...

بضاعتي صنعتها بيدي من مواد نسجتها انا وغزلت خيوطها بمغزل نقاء أمي وأصالة أبي..

لا أريد من كتابتي سلما أصل عبره الى منصب ما، ولا جائزة صممها الوهم ومناقصات سوق مسابقات الفوز.

بضاعتي طريقي الذي رسمته، روحي التي لا تساوم، ثوبي الذي يسترني، وضميري الذي أغسله كل يوم كي أرتديه نظيفا.

-almadapaper


AM:01:11:07/07/2021