وداعاً .. نوال السعداوي
ابتهال العربي

أشعر بالمفاجأة والحيرة حين أكتب اليوم عن هذه المرأة التي لم تعرف الضعف تجاه عنف ولا الخضوع والخنوع للإستعباد .. هي التي جعلت من مكتبها في البيت عيادة خاصة تسهر فيها حتى أوقات متأخرة من الليل حاضرة من أجل طمئنة عيون ساهرة وأرواح حائرة فتجيب وتستجيب لقصص ونحيب الكثيرات من النساء المحزونات المعذبات المحظورات من الحياة، اللواتي يمسكن بسماعة الهاتف بأيدي مرتجفة وقلوب خائفة ونفسية منهارة جراء التخويف والتعنيف، فيأخذن وصفاتٍ علاجية نفسية سريعة لتهدأ نار قلوبهن ويهدأ دوي صداعهن المتكرر من قسوة وعجرفة النظام الذكوري الذي فُرض عليهن، لقد كانت الواحدة منهن لا تمتلك الصوت لتقول لا أوتعترض أو ترفض مالاترغبه بل لأجل أن تقول نعم دون رضى فتدفع الثمن...

آلاف النساء رقدّنَ تحت التراب بعد تأريخ طويل من التعذيب النفسي والقهري الذكوري، ليكونَّنَ أموات في الحياة قبل الوفاة، فالعادات الظالمة والقاسية الأنانية التي تخرج من رحم الخرافة أو الأكذوبة عادة مقدسة وحيث ماتحل بالمجتمعات تحل معها السلطة وحيث توجد السلطة تذهب الحرية وهؤلاء النساء عِشنَ وتوفيّنَ دون حرية.. إلا إمرأة عظيمة وشجاعة حررت نفسها بنفسها هاهي توفيت لكنها لن تموت لأنها رمز للحرية.. إنها نوال السعداوي ....

مؤخراً قرأت له ثلاثة كتب من أروع ماقرأت لنموذج نسوي يلقي بالحقيقة على ماهي عليه دون التوجس خيفة فهي لم تعرف الخيبة، بل عرفت القوة وعرفناها قوية.. أثبتت بسطورها الذهبية إن الحرية المسلوبة هي حرب واقعية وتأريخية مقصودة لها جذور ومسببات ونوازع نفسية واجتماعية وسياسية، وبعثت الكاتبة إلينا برسائل مهمة من عالم النفس والمجتمع والظواهر المجتمعية التي تتعلق بالعلم الفسيولوجي والبيولوجي والتشريحي العلمي، كما عرضت وحللت تناقضات علماء النفس منهم أصحاب الفكر الفرويدي الذي ظلم النساء بأفكاره وإستنتاجاته الناقصة التي كانت منطلقة من رؤية طبية لكنها بنفوس ذكورية دعمت التنقيص والتضعيف من الأنثى .

الكاتبة الراحلة كانت باحثة نفسية وإجتماعية ممتازة أكثر من طبيبة ، لقد مارست مهنتها بشرف فتذكُر في أحدى عباراتها أنها كانت ترى خلل في العلاج بالصعقات الكهربائية لايشفي العلل ولابد من البحث فيه أكثر وأنه إجراء طبي فاشل وغير إنساني، لكن كان الكثيرون يثبتون صحته طبياً كعلاج جيد .. وفي يوم حضرت بمؤتمر دولي ذكروا فيه أن العلاج بالكهرباء له مؤثرات سلبية وغير جدير أن يكون دواء للمرضى، وقتها فرحت وشعرت أنها كانت على حق .. وهذا خير دليل أنها انسانة قبل أن تكون طبيبة ولعل أهم مايجب أن يمتلكه الأطباء هو الإنسانية المطلقة التي لاتعرف سوى شفاء المريض دون إيذائه بأي طريقة من الطرق .

لكن السعداوي كانت الأفضل والأمثل فقد اتجهت للبحث في الحالات المرضية والمجتمعية التي كانت كثيراً ما تتكرر وتحدث للنساء والرجال عموماً، حتى إتخذت من بيتها عيادة خاصة.. وغرفة مكتبها مركز لتَلَّقي الحالات المرضية والإنسانية التي أنهكها التعب النفسي والجسماني والعقلي.. ولم تتوانى أو تتخلى عن أي حالة تصادفها بل حاربت المجتمع القبلي والتقليدي الذي يضرب بسوط من نار على البنت في المجتمعات العربية التي زرعت التفرقة والعنصرية والعبودية والازدواجية وغيرها من الاستغلال والاستذلال للمرأة دون الحرية والكرامة التي نشدتها الباحثة لجميع النساء .. وحاربت الكثير من التقاليد التعسفية البائدة منها الختان لدى المجتمع المصري وتزويج القاصرات وممارسة أنواع التعنيف وغيرها.لست أكتب هنا عن سيرة الكاتبة والطبيبة المصرية فهي معروفة ونستطيع أن نقرأ عنها مانريد، لكنني أردت أن أشيد بعظمة إنسانيتها كأنثى وإمرأة وراعية وباحثة وروائية تَحلَّت بالشجاعة .. لقد عاشت وماتت شجاعة تدافع عن حقوق الإنسان بصورة عامة والنساء بصورة خاصة .. إنها ثورة فردية وضعت خطوطاً واضحة للحرية التي يجب أن نحيا بها لكي لانكون أموات فوق الأرض وتحتها .

AM:03:19:25/03/2021