الفن والنار والكراهية
سناء العاجي


في معظم المنشورات أو المقالات أو الفيديوهات التي تتحدث عن الفنانين من منطقة شمال أفريقيا والشرق الأوسط، وفي كل حديث عن ذكرياتهم، وتفاصيل حياتهم، واختياراتهم، وإنجازاتهم، ستجد نفسك أمام كم هائل من التعليقات التي تتمنى لهم التوبة والمغفرة (خصوصا حين يتعلق الأمر بسيدات)، أو لتخبر المتابعين والمعلقين بأن هؤلاء، مهما بلغت مستويات غناهم وشهرتهم ونجاحاتهم وجمالهم وتجميلهم وشبابهم وصحتهم الجيدة.. فهم في النهاية "في النار خالدون"!

ما الذي حوّلنا من مجتمعات تحب الفن والجمال، إلى مجتمعات تُكفِّر الجمال والفن والفنانين وتنشر خطابات الكراهية بكل أريحية؟ لماذا أصبح الكثيرون حولنا يكرهون الفن ويخلطون بين الفن والفساد، الفن والانحلال، الفن والكفر؟

للأسف.. هذا التحول في الذهنية لا يتحمل مسؤوليته الفقهاء والقنوات الدينية فقط. إنه أيضا نتاجٌ لخطابات عدد من "الفنانين" الذين يتحدثون عن "توبتهم"، أو عن رغبتهم في "التوبة" مستقبلا؛ الأمر الذي يرسخ في ذهن المتلقي أن الفن رجس، يجب أن نتوب عنه قبل الموت.

بل أن الكثيرين اليوم أصبحوا يُقَيِّمون جودة الأعمال الفنية بطول الثوب الذي يغطي ذراع وساق الممثلة، أو بوجود وغياب القبل والمشاهد الرومانسية. الفيلم أو المسلسل قد يكون متوسطا درامياً، إلا أنه يصبح "بطوليا" لمجرد غياب الملابس القصيرة والقبل فيه.

بالمقابل، فإن عملا فنيا آخر قد يعرف مستوى عالٍ من الإبداع من طرف القائمين عليه، إلا أنه يصبح "مستنكرا" إذا حضرت فيه قبلة أو ظهر فيه طرف نهد أو شبر من ساق ممثلة. الفنانون أنفسهم (والفنانات على وجه الخصوص)، أصبح البعض يقيمهم، ليس بقوة أدائهم وحضورهم، بل بعدد المشاهد التي يعتبرها النقاد الجدد "مخلة بالحياء".

كيف تحولت علاقتنا بالفن من علاقة تستمع باللحن الجميل والأداء والصوت الشجي والسيناريو والحوار والقصة وتقمص الشخصيات.. إلى خطاب كراهية وعنف وهوس بالجسد وتدخل في نوايا واختيارات الآخرين؟ كيف يتطور مجتمع يخاف أفراده الفن والإبداع، ويخافون فيه من الجسد ومن الفرحة ومن الجمال؟ كيف يتطور مجتمع تعتبر الأغلبية فيه أن من حقها تقييم أعمالك ليس من باب فني، بل من باب أخلاقي؟ بل وتقرر جزاءك في الآخرة بناء على معاييرها الخاصة.

كما أن هؤلاء النقاد الجدد لا يزعجهم أن يأخذوا مكان الله ليقرروا، باسم تدينهم المفترض، من يذهب إلى الجنة ومن يذهب للنار؛ من يبقى في جهنم مؤقتا ومن يبقى فيها خالدا! لأنهم حاملون للخطاب الديني (وليس بالضرورة للتدين في بعده الروحاني)، فهم يعطون لأنفسهم الحق في الاستيلاء على دور الخالق في تحديد المصائر.. بل وفي محاسبة الخلق ونواياهم وأعمالهم.

ستجد هؤلاء يقرون بأن الله يحاسب كل فرد على عمله، وأن "بغيا" من بني إسرائيل سقت كلبا فغفر الله لها (عن أبي هريرة في الصحيحين)، ولو أن أبا هريرة لا يخبرنا إن كان الله قد غفر لها امتهان الجنس أو كونها من بني إسرائيل!

وستجدهم يقرون أن الله وحده يحاكم الخلق وأنه أعلم بالنوايا. وسيحكون للمرة المليون حكاية رجل متدين قرر في ليلة أن يزور الخمارة التي توجد أسفل بيته، وعن جاره السكير الذي قرر في نفس الليلة أن يتوب، فتوضأ وخرج للمسجد. وهو على باب البيت متوجها نحو المسجد، انهار البيت فمات الجار التائب ومات الجار المؤمن الذي عاد للتو من الخمارة... وبينما يعتقد الجيران أن الأول سيذهب النار والثاني الجنة، إلا أن العكس هو الصحيح لأن المؤمن فسد.. والسكير تاب!

بغض النظر عن كون هذه الحكاية الشعبية تعني أن الله يحاسبنا على آخر أعمالنا فقط وليس على مسارٍ كامل من الحسنات والخطايا. لكن، فليكن..

ألا تعني كل هذه المرويات عن الجارين، وعن مهنية الجنس من بني إسرائيل، وغيرها من الحكايا الكثيرة، بصحيحها ومُبتَدَعِها، أن الله أعلم بالنوايا؟ فكيف يستطيع شخص، في نفس الجملة، أن يرويها مقتنعا مؤمنا.. وأن يكفر فنانا ويقر بكل موثوقية أنه في النار خالد؟

كيف يستطيع الجميع أن يقسم أن ميزة الإسلام أن لا وسيط فيه بين الخلق والخالق، وأن يقرر الجميع في مصائر باقي الخلائق؟

إنها خصوصيتنا التي نتمسك بها كـ.. خير أمة أخرجت للناس!

-alhurra


AM:02:15:01/08/2021