في الثّقافة العالِمة
عبد الإله بلقزيز
في مقابل الثّقافة الشّعبيّة المُرْسَلة، التي يُنتجها النّاس، ويعبّرون بها عن ذواتهم وعن تمثّلاتهم لأوضاعهم والعالم، والتي تتمظهر فيها خصوصيّاتُهم الأنثروبو-ثقافيّة وتمايُزات شروطهم الجغرافيّة، تقوم ثقافةٌ أخرى أضيقُ مساحةً من الأولى – من حيث التّداوُل – هي الثـّقافة العالِمة أو الثـّقافة الوطنيّة.

وهذه ثقافةُ نخبةٍ عالِمة، أي متكوّنة تكوينًا علميًّا. وهي، مثل الأولى، أداةٌ للتّعبير عن الذّات ولتَمثُّل العالِم. لكنّها ليست فضاءً للتّعبير عن الخصوصيّات الاجتماعيّة إلاّ متى كانت هذه خصوصيّات وطنيّة عامّة تتمايز بها جماعةٌ وطنيّة (أو قوميّة) عن أخرى.

وليستِ الثّقافة هذه أعرقَ في التّاريخ، كما هي الثّقافة الشّعبيّة، ولكنّها أقْدر منها على الدّوام والبقاء لأنّها قابلة للحِفظ؛ لا من طريق الذّاكرة والتّناقل الشّفهيّ، فحسب، بل من طريق التّدوين أيضًا.

ولا تتميّز هذه الثّقافة العالِمة بكونها مكتوبة، على الرّغم من أنّ وجودها ارتبط بالكتابة. وإذا ما اعتبرنا الكتابةَ رسْمًا للكلام، فالكلام من عُدّة اشتغال الثّقافة الشّعبيّة في قسمٍ كبيرٍ من منتوجاتها أيضًا.

يمكن للثّقافة العالِمة أن تتوسّل الأدواتِ عينَها التي تتوسّلها الثقافة الشّعبيّة (الكلمات، الأصوات، الحركات، الرّسوم، الإيماءات...)، من دون أن يكون هناك فارقٌ بينهما في وسائل التّعبير. غير أنّ طرائق كلٍّ منهما في استخدام تلك الوسائل تختلف.

حين يكتُب مَن يكْتُب، من داخل الثّقافة العالِمة، أو يرسم أو يؤلّف أصواتًا (موسيقا)، أو يرسم حركات راقصة أو ينحت منحوتة...، يفعل ذلك انطلاقًا من قواعدَ وأصول متقرِّرة في الجنس الأدبيّ أو الفنيّ أو الفكريّ الذي يُنتِج الأثر الثٌّقافيّ من داخل نظامه؟

وليست تلك حال من يستخدم هذه الوسائل في نطاق الثّقافة الشّعبيّة؛ حيث لا وجودَ لقواعد حاكمة وملزِمة للجميع.

على أنّ الثّقافة العالِمة، وإن كانت ثقافةَ نخبةٍ محدودة في المجتمع، إلاّ أنّ منتوجَها قابلٌ للفُشُوِّ والذّيوع على أوسع النّطاقات. فإلى أنّها ثقافةٌ محفوظة بالتّدوين على أوسع النّطاقات. فإلى أنّها ثقافةٌ محفوظة بالتّدوين ويُعاد نشرُ المدوَّن منها باستمرار، فهي تتوسَّع عبر منظومة التّكوين والتّعليم والتّأهيل العلميّ، في المدارس والجامعات والمعاهد العليا، بما هي مادّةُ ذلك التّكوين في المقام الأوّل.

إنّها تنمو وتتوسّع في هذه البيئة التّعليميّة العلميّة لا في البيئة الاجتماعيّة والحياة العامّة.

ولمّا كانت بيئة التّعليم تتوسّع، وتتغدّى من توسُّعها بيئاتٌ أخرى في الدّولة والمجتمع، مثل الإدارة والمجال السّياسيّ، والميدان الاقتصاديّ، والإعلام...، ساغ القول إنّ ثقافة النّخبة هذه لن تبقى، مع الزّمن، ثقافة نخبويّة، تمامًا مثلما أنّ فضاءَها الرّئيس (=التّعليم) لم يعد – مثلما كان قبل عقود – فضاءً نخبويًّا.

هكذا يزيد جمهور الثّقافة بتعاظُم جمهور التّعليم، وبتزايد حركة النّشر الطِّباعيّ والإلكترونيّ فضلاً عن حركة التّأليف والإنتاج الفنيّ.

قلنا إنّ الثّقافة العالِمة ليست ثقافةَ خصوصيّات إلاّ متى عنتِ الخصوصيّةُ الشّخصيّةَ الوطنيّة والقومّة. إنّها ثقافةُ المجموع الاجتماعيّ والجامع الوطنيّ.

وهي، لذلك السّبب، عابرةٌ لحدود الخصوصيّات الفرعيّة (المناطقيّة والأنثروبولوجية) التي تعبّر عنها الثّقافة الشّعبيّة، دامجةً إيّها جميعَها في كيانيّة ثقافيّة واحدة. لذلك عرِفتْ باسمٍ آخر الثّقافة الوطنيّة (أو القوميّة).

لكنّ وطنيَّتَها ليست شرنقةً لها تحكُم عليها بالانغلاق والانكفاء على الذّات، باسم التّميُّز الوطنيّ والتّمايُز القوميّ، بل تدخُل كلُّ ثقافةٍ عالِمة في علاقاتٍ من التّبادُل الثّقافيّ (=التّثاقُف) مع غيرها من الثّقافات الإنسانيّة العالِمة الأخرى، لأنّ ينابيعها واحدة ومشتَرَكاتُها عديدة.

ولا نقصد بالمشترك، هنا، القِيّم الثّقافيّة الإنسانيّة، لأنّ هذه موجودة حتّى بين الثّقافات الشّعبيّة، وإنّما نقصد به المشتَرك الإيپيستيميّ (=المعرفيّ) والذّهنيّ والمنهجيّ الذي لا يبدِّدُهُ اختلافُ الألسُن والمرجعيّات الثّقافيّة الخاصّة بكلّ ثقافةٍ في حدود مجالها التّداوليّ، ولا يغيّر من حقيقته كمشتركٍ عامّ.

AM:04:43:04/03/2021