ألف وسبعون حبل مشنقة
كوليت بهنا

مات الجلاّد، القاتل الشرعي، سيّد الرعب، المساعد أول في قطاع السجون المصرية، حسين القرني، الشهير بـ"عشماوي"، بعد أن نفذ ألفاً وسبعين حكماً بالإعدام، أرّخت لاسمه وأهلته للدخول ضمن قوائم موسوعة "غينيس" كأكبر من نفذ أحكاماً بالإعدام على مستوى العالم لأكثر من ثلاثة عقود.

مات الرجل الذي كانت الأسنان تصطكّ عند سماع اسمه ميتةً هادئة بين أهله وفوق وسادته الطرية، مثيراً برحيله اهتماماً إعلامياً ملفتاً، وقاسماً الرأي العام على وسائل التواصل الاجتماعي بين مطالب له بالرحمة والمغفرة بوصفه رجلاً جسوراً اقتص من عتاة المجرمين بكفاءة، وبين من لعنه وجرده من إنسانيته، متهماً إياه بأنه قضى بدم بارد على حيوات العشرات من "المظلومين".

ليس مفاجئاً أن يحرّض موت رجل امتهن مهنة غير عادية كل هذا التباين الحاد في إطلاق الأحكام الأخلاقية بحقه، وهو الذي علّق ألفاً وسبعين حبل مشنقة تختبئ خلفها ألف وسبعون حكاية، وساعد كخبير فني في نصب منصات إعدام "خلّبي" في السينما والتمثيليات، حرص كمحترف على مصداقية وحسن تنفيذها درامياً، وترك في ذاكرة بعض نجومها ندبات لذعرٍ مزمن.

لوهلة، يتوقف المرء ويفكر ملياً في الدوافع التي قادت الرجل لامتهان مهنة الإعدام كموظفٍ رسمي ينفذ أحكام القانون باحترام وطاعة، ويطرح عشرات الأسئلة المحيرة حول ما إن كان ظالماً أم مظلوماً، مذنباً أم بريئاً، وهل جالت في خاطره يوماً هذه الأسئلة بذاتها مع جميع من أعدمهم؟

عشماوي، الذي كان له حضور ملفت على العديد من الوسائل الاعلامية، وهو أمر نادر أن يفصح جلاد عن هويته بهذه المباشرة، يجيب عن بعض هذه التساؤلات بذاته ضمن أحد حواراته المثيرة مع جريدة "المصراوية"، معرباً عن فخره لاختياره مهنة الجلاد برغبته، وبكاؤه على بعض الحالات القليلة ممن اعتقد أنهم ظلموا، وإسهابه في شرح طبيعة مشاعره حين قال: "أنا بفرح لما بنفذ حالة إعدام، عشان بروح لعيالي بفلوس وفاكهة".

هكذا، وبكل بساطة، تعيش حيوات على حساب تغييب حيوات أخرى في معادلة حياتية صعبة الفهم، جرب تحليلها المخرج الإيراني، محمد رسولوف، ضمن واحدة من أهم التجارب السينمائية العالمية التي قدمت العام الفائت تحت عنوان "لايوجد شيطان There is No Evil"، وهو فيلم إشكالي وشديد الحساسية، عوقب رسولوف بسببه من سلطات بلاده بعد أن قام بتهريبه -مثل معظم الأفلام الإيرانية- إلى مهرجان برلين الدولي، وحصد عليه جائزة الدب الذهبي2020.

يقتحم رسولوف عالم الجلاد عبر أربع قصص مثيرة تشكل الهيكل العام للفيلم، بحيث تبدو بنية كل قصة فيلماً مستقلاً، متصلاً في عمقه بخط حسيّ يتكشف من تلقاء ذاته ويربط فرديته مع القصص الثلاث الأخرى، لتنسج المجموعة القصصية السينمائية ما يشبه دراسة سيكولوجية للنفس البشرية في مواجهة فكرة القتل.

تحدد القصة الأولى، وهي الأكثر صدامية، الركيزة الدرامية الأولى التي ستتمحور حولها فجائعية الفكرة العامة للفيلم، عبر المضي خلال يوم كامل في رحلة لتفاصيل مملة وعادية في حياة بطله، حشمت، الذي يمضي أوقاته مع زوجته وطفلته ويحنو على والدته ويتبضع أشياءه من السوبر ماركت ويساعد زوجته على صبغ شعرها قبل أن يذهب إلى وظيفته فجراً.

فجرٌ سيكون آخر يوم لعدد من السجناء أو المعتقلين، حين تتضح هوية حشمت بصفته الجلاد المسؤول عن إضاءة الأزرار الخضراء التي تعني تنفيذ الإعدام، في مفاجأة ستوقظك من حالتي الرتابة والملل المخادعتين اللتين أوقعك المخرج بهما قبل قليل باستعراضه لحياة إنسان عادية وتصدمك بمشهديتها لوقت طويل.

لايقترب رسولوف كثيراً من المألوف في الأدب والسينما اللتين أسهبتا في قصصهما الكثيرة عن عوالم الضحايا والسجناء ومعاناتهم، بل يشير إلى هول خسارة أحدهم في قصته الثانية، ليرشدنا بلفتة سريعة إلى أن من يتحدث عنهم ليسوا بمجرمين، بل هم معتقلو رأي وسجناء سياسيون يعدمون في مثل هذه البلاد يومياً، وبسرية مطلقة وبأعداد غير معروفة.

وبدخوله إلى عالم الجلاد الذي يعيش حياته بشكل طبيعي كأي إنسان عادي قادر بهدوء أن يفصل بين عمله وحياته الشخصية، يطرح رسولوف تلك الإشكالية الأبدية حول السلطة والاستبداد وتأثيرهما على الحرية الذاتية، والخيارات الفردية للمرء من خلال تلك الشعرة الدقيقة والواهية التي تفرق بين الخير والشر، أو ما يفترض بالنفس البشرية أن تدركه بذاتها عبر استشفاف الفروقات بينهما.

ألف وسبعون حبل مشنقة، تعني في الحساب أن عشماوي فرح ألفاً وسبعين مرة حمل فيها لأطفاله "فلوساً" وفاكهة.




AM:02:04:01/05/2021