لعنة الجبروت
كوليت بهنا

بعد رحلة شاقة دامت أكثر من عشرين عاما في أروقة المحاكم، بشرني أحد الأصدقاء قبل أيام أنه تمكن من كسب الدعوى القضائية لصالح العقار الذي يمتلكه في بيروت،  وأردف أنه اضطر بعد فوزه إلى استئجار منزل آخر بعيد في إحدى المناطق اللبنانية كخطوة احترازية بررها بأن القانون الذي أنصفه في جانب، قد لا يتمكن من حمايته وأسرته من رد فعل خصمه الانتقامي اللاحق، وحيث لاضمانات مؤكدة في هذا الصدد. 

تفهمت دوافع ومقصد الصديق بمزيج من الأسف والسرور بسبب مواكبتي لحيثيات قضيته مع جاره الذي أذاقه طوال تلك السنوات جميع أصناف الكراهية ومارس ضده وضد أفراد أسرته كافة أساليب التنمر والابتزاز الممنهجة.

وتتلخص القضية التي جرب الصديق بداية حلها بالتفاهم الودي وفشل، بعقارين جارين متلاصقين متشابكين لوجستيا في ما يخص أحقية التشارك بالهواء والضوء والتي تعرف قانونيا بحقوق الارتفاق.  

مساحة عقار الجار الذي قام بمخالفات وتجاوزات قانونية بهدف توسيع عقاره على حساب حقوق جاره تبلغ ضعف المساحة. لكن نهمه لم يتوقف عند هذا الحد، بل مارس كافة أساليب الترغيب والترهيب للضغط على الصديق و"تطفيشه" وبيع بيته له، مستغلا نفوذه المالي والعائلي والطائفي وبعض الفاسدين في الدوائر المختصة لشراء الذمم، والتعامل ضده بتعال ووصاية وسلطوية وجبروت.  

قضية قد تبدو اعتيادية ومكررة وتتشابه مع آلاف القضايا التي تحفل بها ملفات القضاء أو خارجه لنزاعات لاتتوقف بين الجيران. لكن مهما اختلفت أسبابها، تبقى قضية مؤثرة توصف "بالمنغضة" للعيش، تلقي بظلالها  الثقيلة على أصحابها وتعكر صفو حياتهم ضمن أجواء مشحونة مستمرة من الاستفزاز والتهديد. 

وترتفع نسبة احتمالية النزاعات بين الجيران للعديد من الأسباب، مع ماتشهده الحياة من ازدياد في نسبة الاكتظاظ السكاني، الذي فرض أنماطا معمارية غير صحية أو صائبة من التجاور تصل إلى حد التلاصق الحاد والاحتكاك المباشر الذي يوفر جميع أسباب التشابك والعنف. 

وتزداد مثل هذه النزاعات باختلاف أسبابها في المجتمعات المحافظة التي تستمد قوة شرعيتها من الأعراف والتقاليد، وتمنح بعض الجيران سلطة مجتمعية "واهية" للتعدي على جيرانهم والتدخل في شؤونهم وخصوصياتهم لأسباب تتعلق بالمحرمات وغيرها، بحيث تندرج في مجملها في خانة الجبروت الذي يمارس ضد بعض الأفراد، وعدم تفعيل القوانين الصارمة التي تحد من مثل هذه التجاوزات. 

من مساوىء حظ الفرد في الحياة أن يكون له "جار مزعج". وإلى اليوم يتبادل المشرقيون المثل المتوارث "الجار قبل الدار" لشدة حساسية هذا الأمر وتأثيره المصيري. لكن الأمور مهما ساءت بين الأفراد، يمكنهم بتوفر بعض الإمكانيات من تغيير أماكن سكنهم والتخلص من مثل هذا الكرب، فيما يستحيل على مستوى الدول أن تغير جغرافياتها الطبيعية وأقدراها التي تضعها على احتكاك مستمر إما مع دول جارة راقية المعشر أحيانا، أو مزعجة ومستفزة ونهمة ومتغطرسة، وهي الأغلب. 

إن نظرة عامة للعديد من كبرى النزاعات بين الدول الجارة في العالم تؤكد مدى وخطورة انتهاكات مبدأ حسن الجوار الذي أقرته المواثيق والقانون الدولي منذ أكثر من خمسة وسبعين عاما، والممتدة في أخطر تجلياتها بين الصين وجيرانها، وكوريا الشمالية وكل من حولها، وبين الهند وباكستان، والتهديدات المستمرة من إيران لجيرانها، والانتهاكات التركية وقطع الموارد المائية عن دول الجوار من حين إلى آخر، وآخرها حرب روسيا الجارية على جارتها أوكرانيا كأحدث الأمثلة السافرة. 

وهي حرب ساقت لها روسيا عشرات المبررات التي كان يمكن تفاديها بالحلول السياسية والدبلوماسية، ولم تشفع كل وشائج القربى بين الشعبين والعلاقات التاريخية والدينية والثقافية والاقتصادية والمصالح والموارد الطبيعية المشتركة، في إيقاف حدوثها الذي يكمن في واقع الأمر بالنظرة الاستعلائية والوصائية والمتغطرسة اتجاه أوكرانيا. 

فقد أظهرت روسيا خلال الأسابيع الفائتة من بدء هذه الحرب، ليس فقط أنها خولت لنفسها -كقوة عظمى- حق التعدي على سيادة دولة جارة والتحكم في سياساتها وتقرير مصيرها وتدمير ممتلكاتها وقضم أراضيها ومواردها، بل الإصرار في الوقت ذاته على منع الجار" الخصم" الأوكراني من حق الدفاع عن نفسه، وتدمير كل أشكال المساعدات الدولية التي تقدم له. 

سلوك يؤكد الرؤية التي تحمل الكثير من تغول "الجبروت" الذي يعاقب الضحية إن دافعت عن نفسها ويغضب من صراخها بسبب الألم، ويغضب من محاولتها النجاة، ويغضب من كل من يساعدها أو يؤيدها، كمثل مانشهده من آراء ومواقف تعسفية وغير أخلاقية على مستوى الأفراد في ما يتعلق بالضحايا (النساء المعنفات مثلا)، وتحميل المجتمع لهن مسؤولية التعدي أو العنف ضدهن تحت ذرائع هندامهن أو رغباتهن في التعلم أو الانعتاق. 

إطالة أمد الحرب الروسية على أوكرانيا، قد يحمل في الأيام المقبلة مخاطر واحتمالية توسيع رقعة هذه الحرب ضد جيران أوروبيين آخرين، وإيقافها ليس مطلبا ملحا للأمن والسلم العالمي فقط، بل للانطلاق منها والقياس عليها لتفعيل وتشديد المواثيق الدولية التي تحفظ مبدأ حسن الجوار برؤية صارمة أكثر تركيزا تحرص على تغليب الحلول السياسية والدبلوماسية لحل النزاعات بين الدول الجارة بديلا عن سيل الدماء الذي لايتوقف. ليس فقط حل مثل هذه النزاعات، بل مايليها من العمل على تحرير العقول ورؤى الساسة وقادة الحروب وبعض الأفراد من طغيان "الجبروت" وتغوله في أنفسهم، والذي يجييرونه لاستضعاف الآخرين والتعدي عليهم. 

هو"الجبروت" ذاته الذي أجبر الصديق إلى الابتعاد عن منزله إلى منزل آخر، رغم ربح الدعوى القضائية لصالحه، لأن مخاوفه من احتمالات انتقام خصمه ما زالت مشروعة وقائمة، والمتعلقة بطبيعة" الجبروت" الذي قد يكمن إلى حين، لكنه لايزول من نفوس من يصاب به مثل لعنة أبدية.


AM:04:40:07/05/2022