"أخيل" فلسطين
كوليت بهنا

من المفارقات القدرية أن مقتل الصحفية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة جاء بعد أسبوع واحد فقط من رسالة الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة في الثالث من مايو الجاري، قال فيها: "يواجه العاملون في وسائل الإعلام في المناطق التي تندلع فيها الحروب ليس وحسب خطر القنابل والرصاص، وإنما يواجهون أيضا أسلحة التزوير والتضليل المصاحبة للحروب الحديثة، فهم لمجرد اضطلاعهم بعملهم، قد يهاجَمون كالأعداء أو قد يتهمون بالتجسس أو قد يحتجزون أو قد يقتلون". 

وإذ يندرج مقتل المراسلة أبو عاقلة ضمن السياق، وبأنه ليس الأول ولن يكون الأخير، بدا التفاعل الكبير معه ملفتاً واستثنائياً على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، وعلى مستوى الإدانات التي تواردت من ساسة وزعماء دول وقادة أحزاب ومنظمات حقوقية وإنسانية دولية حكومية وغير حكومية، وأيضا على مستوى ردود الفعل الجماهيرية التي أجمعت على فجائعية الحدث والخسارة المؤسفة لهذه الاعلامية القديرة. 

يمكن تفسير هذا الاستثناء في حجم ردود الفعل بعدد من النقاط، يتقدمها أن مقتل أبو عاقلة ثبّت قتامة أحوال الصحافة العالمية، وأضاف لكافة التقارير والإحصائيات المؤسفة التي صدرت عن المؤسسات الدولية المعنية بالإعلام والحريات وحقوق الإنسان، فإن هناك مسؤولية مضاعفة لحماية الإعلام والإعلاميين وفقا لمنهجية أممية مختلفة تتطلب صرامة أكثر، وتكون قادرة على أن تضبط التغول والانتهاكات المتكررة في حق الجسم الصحفي. 

كما تقاطع مقتل الصحفية مع مزاج سياسي عالمي مختلف، وجاء في وقت شديد الدقة في حساباته، وذلك بسبب الحرب الروسية الجارية على أوكرانيا، والاصطفاف الدولي الكبير ضدها بوصفها حربا على قيم الحرية وحقوق الإنسان والديمقراطية. وعليه، لايمكن للمجتمعات الغربية الكبرى ذات الديمقراطيات العريقة ألا تتفاعل أو تبدي عدم الاهتمام الجاد المطلوب بمقتل صحفية مؤثرة في مثل هذا الوقت، إذ تبدو وكأنها وضعت تماما "على المحك" لإثبات قيمها ونفي الاتهامات الموجهة إليها باستمرار حول ازدواجية المعايير. 

كما أن المجتمع الدولي الذي يسعى جاهداً إلى مزيد من التكاتف الأممي ضد حرب روسيا الجارية على أوكرانيا، ويقدم لأجل نصرة الأخيرة أثماناً اقتصادية باهظة، هو أكثر حكمة في تفادي إثارة حساسيات طارئة مع حلفاء استراتيجيين مثل دولة قطر، ليس فقط في ما يتعلق بموضوع الغاز شديد الأهمية في مثل هذه الأوقات الدقيقة، بل أيضاً بسبب الدور السياسي الذي تلعبه قطر وعلاقتها المميزة مع إيران وارتباط سياساتها بعدد آخر من ملفات الشرق الأوسط. 

هل لجنسية شيرين أبو عاقلة بصفتها مواطنة أميركية علاقة في هذا التفاعل الدولي والأميركي بشكل خاص؟. نعم . وهو مفصل هام آخر قد يصب في مصلحة العدالة، وبوصفه عاملاً مؤثراً يخص طبيعة المجتمع والرأي العام الأميركي الذي يمكنه أن يناصر وينصف حقوق مواطنته الأميركية ويضغط على مؤسساته المعنية في حال تقاعسها عن إيلاء القضية التفاعل المطلوب. 

ويمكن اعتبار إثارة "مسيحية" شيرين أبو عاقلة مرتكزاً إيجابياً يعول عليه وليس العكس، وذلك من خلال قراءة مستوى الإدانات الدولية التي جاءت من دول ومنظمات إسلامية، وبما أبداه الشارع الفلسطيني بكافة أطيافه وطوائفه من رد فعل عفوي وشعبي عكس نسيجاً وطنياً مشتهىً في كل الأوقات. الأمر الذي يمكن رؤيته من زاوية مختلفة تلجم الهجمات الرجعية "الإسلامية" المفتعلة التي تروج على وسائل التواصل الاجتماعي في كل الأوقات، والتأكيد على أهمية معاني الإنسانية العابرة للطوائف واحترام الرموز الوطنية المؤثرة تبعاً لقيمتها وأشخاصها وليس لانتماءاتها الدينية. 

كما يستوي الأمر الإيجابي، بالمثل، على جنس شيرين أبو عاقلة بصفتها الجندرية كامرأة، وأهمية ردود الفعل الشعبية المحلية والعربية من حيث تقديرها وتكريم منجزها كسيدة عاملة، بما يمنح بعض الأمل بالمساواة وإمكانية تراجع "التمييز الجندري" حين يرتبط صاحب القضية بالشأن الوطني، ومنحه كل الاحترام والتقدير والمساواة في "رمزيته" الوطنية، وهو ما تحقق فعلاً مع تكريم شيرين أبو عاقلة وسام" نجمة القدس" من قبل الرئيس الفلسطيني. 

كل ما تقدم منح قضية مقتل الصحفية الفلسطينية  زخماً مختلفاً يؤمل استمرار تفاعله واستثماره لصالح الحقيقة والعدالة، والانطلاق من هذه القضية كمرتكز جديد يصب في النهاية في مصلحة حماية الجسم الصحفي عبر العالم وشفافية التحقيق في مقتلهم. وأن يشكل منعطفاً يؤمل البناء على نتائجه بما يخدم مصالح وحقوق الشعب الفلسطيني وكسر الانسداد القائم بما يخدم ويمهد للسلام المنشود. 

جمعت شيرين أبو عاقلة المجد في حياتها ومماتها، تستحق جريمة مقتلها كل الإدانة، وشديد الأسف لغيابها الذي سيترك فراغاً موحشاً بعد رحلتها الطويلة في الوفاء ونصرة قضية شعبها، والتي أبدت خلالها خصالاً إنسانية ومهنية ملفتين للغاية.  

الصحفية شيرين التي وبالرغم من دروعها، قنصت في موضع ضعيف كما  قنص " أخيل"، وأثبت مقتلها أن الخوذة والسترة الواقية قد لاتكفيان لحماية حياة الصحفي، بل أن تجنبيه مثل هذا المصير يجب أن يكون في ظل تفعيل صارم للقانون. 


AM:03:33:14/05/2022