الفِلتر: حفلة تنكّرية دائمة
عائشة بلحاج

تُمثّل أسماء مثل مونيكا بيلوتشي، أو أنجلينا جولي، أو كيم كارداشيان، أو ياسمين عبد العزيز، أو هيفاء وهبي، أيقونات الجمال في وسائل الإعلام، بغضّ النظر عن مصدر جمالهن، طبيعياً كان أم من عطايا الثورة في جراحات التجميل.

وتُعتبر تفاصيلهن النّموذج الحالي للجمال، ولأنّ الله خلق وفرّق، ومنح لكل شخص قالبه الخاص، لحسن الحظ، فإن معظم النّساء لا يحملن وجوها تُشبه هؤلاء الأيقونات وغيرهن. ولأن كثيرات من معجبات النّوع الرائج من معايير الجمال ومريداته لا يملكن المال لأجل جراحة تجميلية هنا أو هناك؛ اخترعت التكنولوجيا لهن الفلتر، ليكون الثّورة الجديدة في صناعة الهوية الفردية في عالمٍ تطحنه هذه النزعة.

الفرد الذي من شدّة تمسّكه بفرادته، أصبح جزءا من القطيع الذي تُسيطر عليه مفاهيم وسائل التواصل التي أصبحت الصّانع الجديد للقيم وللهويات.

إنّه عالم مزيّف بالكامل، مصنوعٌ تحت الطلب، فلم يعد ممكنا فقط أن تخترع اسما وحسابا وشخصية وهمية من الصّفر، بل صار بإمكانك أن تُحوّل وجهك وجسدك من شكله الحقيقي إلى "الشّكل المُشتهى" الذي تريد تقديمه للعالم. وهذه التقنية لا تتوفر على شكل صور فقط، بل هي في متناول الجميع مبثوثةٌ على فيديوهات، أو عن طريق البث المباشر، فبإمكان أي شخص أن يتحدّث إلى الناس وهو جالس في سريره بوجه منتفخ من النوم، ومع ذلك يظهر بأحسن منظر ممكن بفضل قناع الفلتر.


في وقت لم نعرف فيه بعد مصدر الفيروس الذي أذلّ الإنسان المعاصر، قد يكون طبيعيا مائة بالمائة، تحاول الأرض، من خلاله، معاقبة البشر على سوء تسييرهم مواردها، وقد تكون الصّين أطلقته إلى العالم لسبب ما، وقد تكون جهةٌ غربية أميركية قد أطلقته في الصين، أو لعلّ شركة أدوية عابرة للقارات تقف خلفه .. احتمالات كثيرة لا أحد يمكنه البرهنة على أحدها، بما يكفي ليلغي الآخر.

ولا نعرف حتى إذا كنا نحتمل الإجابة النهائية، وتداعياتها، فنحن أميل إلى التزييف أكثر من أي وقت في تاريخ الإنسان، وإخفاء الحقائق.

كل شيء مُفلتر، ويمرّ بماكينة الفوتوشوب أو الفلترة، ليبدو ألمع وأنظف، وأكثر حيوية مما هو عليه

انظر إلى عدد الحسابات المزيّفة والمختبئة تحت أسماء مستعارة في مواقع التواصل، أو إلى عشرات الفلترات الجديدة التي تقدّمها هذه الوسائل. يُفترض بالصّور أن تُقدّمنا كما نحن، ربما من الطبيعي أن نستعمل بعض الحيل التي تظهرنا أفضل، إضاءةً ما، مكياج، هندام أفضل. ويكون ذلك في حدود الطبيعي، لأنّها لا تغيّر من شكلنا، ولا من مظهرنا الحقيقي.

لكن هذه الفلترات تُقدم إمكانية تغيير كاملة لأشكالنا، فيصبح بإمكاننا الحصول على الشفاه المنفوخة والأنف المنحوت، الخدود المدورة والعيون الملوّنة، الذقن المدبّب والحواجب والعيون المرفوعة، والوجه المربع... وكل ما نشتهيه، لنظهر كما نريد. وبقدر ما تتعرّض الطباع الشّخصية للتزييف، لكونها قابلة للإخفاء، أصبحت الملامح الخارجية أيضا قابلةً للإخفاء.

الأسوأ أننا لم نعد نُفلتر صورنا فقط، بل حتى الأمكنة صارت تُصوّر بالفلتر، لتثير الاهتمام، وتبدو أجمل. في مجموعات السّفر صار الناس ينشرون صور أمكنة زاروها بعد أن شاهدوها في الصّور، وكانت صدمتهم كبيرة، فلا علاقة بين الصور السّاحرة والمكان الذّميم الذي وجدوه في انتظارهم.

ويذهب غيرهم أبعد، فيُفلترون حياتهم بالكامل؛ يستعملون الفلتر غير التكنولوجي، بالتقاط صور أمام أبواب فنادق فاخرة، ومحلات الماركات الفاخرة مع كيسٍ يحمل اسم الماركة على أساس أنّ الشاب أو الشابة تسوّقا من هناك.

مع العلم أن سعر قطعة واحدة يعادل أجر شهر كامل أو أكثر. كما يمكن أن تلتقط الشّخصية المستعارة صورة في بيت صديقة أو جارة أو معرض أثاث وتنشره في "إنستغرام" أنه بيتها.

وتستلف ملابس الصديقات والجارات والزميلات، وتشتري ملابس تعيدها بعد التقاط صور بها، بل تلتقط الصور في غرف تغيير الملابس. حتى تظهر بأكثر من شكل ولباس على صفحتها. هي حياة كاملة قائمة على التزييف والفلترة.

انظر إلى عدد الحسابات المزيفة والمختبئة تحت أسماء مستعارة في مواقع التواصل

يمكن قول ذلك عن كلّ شيء في الحياة المعاصرة. كل شيء مُفلتر، ويمرّ بماكينة الفوتوشوب أو الفلترة، ليبدو ألمع وأنظف، وأكثر حيوية مما هو عليه. لم تعد الأشياء تكفينا كما هي، بل يجب أن تكون الأجمل والأقوى والأسرع والأكبر والألذّ.. وغيرها من صيغ التّفضيل. كأننا جميعا عمال شركة إعلانات ضخمة تَعِد زبنائها بترويج منتوجهم أنه الأفضل، والواحد والوحيد (the one and the only).

على وزن "أنا لا أكذب بل أتجمّل" نقول: لا أكذب بل أتفلتر. وما من قانون ضد الفلترة، ولا أحد يمكن أن يمنع أحدا من أن يُفلتر نفسه وحياته التي يقدّمها في أحسن ما يمكن. قبل فترة، خرج المؤثرون ليقولوا إن حياتهم ليست بالغة السّعادة، كما يقدّمونها، بل خلف لحظات السعادة المصورة بؤس كبير. لكن من قال إن حياتهم مثالية؟ أليسوا هم من فعل، عبر الصور والفيديوهات التي تكاد تكون بلا عيوب؟

أما عمليات التّجميل والميل إلى تقليد المفهوم العالمي للجمال، فقد عرفت مستوى جديدا من الرّواج، تحت تأثير الفلترات، وما تقدّمه من صفات "مثالية" في عالم الجمال. كل من يملك تفاصيل مختلفة يركض إلى الآلة الضّخمة، آلة الجمال، لتغيير عيوبه وتذويب المختلف فيه. يمكن الحديث عن الشخصية السّائلة، والإنسان السّائل القابل للتشكُّل حسب القوالب التي تفرضها الموضة.

وهو ما فات زيغمونت باومان، صاحب مفاهيم الحداثة السّائلة والزمن السائل، وغيرها من أشكال السّيولة في الحياة المعاصرة التي ستصل قريبا إلى سيناريو أن يصبح أمرا عاديا، أن تسأل شخصا التقيت به بعد تحقيق ذاته في المجتمع: وجهك هذا الذي تحمّله، هل اشتريته؟ ولنا في المغنية المغربية، دنيا بطمة، مثال ساطع على اقتناء وجهٍ لا علاقة له بالوجه الحقيقي، لأنك تملك المال لذلك، أما الجوانب الأخلاقية والنّفسية فإنها ثانوية، المهم أن تلحق الموضة لا أن تكون نفسك.

AM:01:34:07/10/2021