النسويّة العموميّة والارتباط بالطبيعة
د. نادية هناوي

النسوية كلمة غير قابلة لتعريف محدد، فهي لا متناهية حين ينظر إليها بمنظار حياتي خارج نصي، وهي لا نهائية حين توجه إليها مهام إنسانية ما بعد نوعية، وهي لا تخصصية حين يتوقع منها أداء أغراض وتحقيق غايات فوق اعتيادية لتكون النسوية هي السياسة والاجتماع، وهي اللغة والتاريخ، وهي الفلسفة والدين، وهي الجنس والنفس، وهي الميثولوجيا والانثروبولوجيا.

وبهذا التنوع المعرفي والاتساع الوظيفي والتعدد التكويني يغدو أي تعريف للنسوية غير شامل ولا ملم بكل حيثياتها مهما حاول ذلك التعريف أن يقولبها كمياً في أكثر من حد من الحدود أو يموضعها نوعياً في أكثر من صورة من الصور. ويبدو أن هذا اللاتناهي الذي عليه النسوية ــ كمفردة عامة فوق أي تعريف وأعلى من كل توصيف وأعقد من أي إبلاغ وتبصير ــ هو الذي يجعلها تتلاقى منطقياً مع مفردة الكون بوصفه مكاناً لا متناهياً وعاماً ولا نهائياً، فلا هو يعرف التحديد ولا التحجيم، ولا هو قابل للاحتواء أو التلاشي كما أنه خارج متاحات التقوقع والانكماش.

وإذ تجتمع في مفردة الكون كل المحددات المكانية كأحياز فضائية ومواقع جغرافية وكيانات محددة بأصقاع ومساحات مقيسة بحدود وحجوم ذات أمداء وبيئات لها أنحاء معلومة؛ فإن في هذه المفردة أيضا تجتمع كل اللامحددات المكانية التي تجعل أي مكان متجرداً في زمانيته ووهمياً في حديته وخيالياً في واقعيته؛ فلا هو متناهٍ في الصغر ولا هو متناهٍ في الكبر.

هذا التصور الرحب والامتدادي للنسوية هو الذي يجعلها عمومية في تعاريفها وتوصيفاتها وبروتوكلات تمأسسها واستراتيجيات عملها؛ فهي بؤرة لا قرار لها مثلما هي قمة لا انتهاء لامتدادها.

وبسبب هذه العمومية تصبح النسوية خطيرة ومخيفة بالنسبة للآخر الذي هو في عموميته كوني أيضاً، وله ما للكون من الامتداد والتناهي. ولأن الذكورية ترى في وجود عمومية أخرى مثلها إعاقةً وتهديداً، سعت عبر العصور إلى شطب عمومية النسوية لا باحتوائها فيها فذلك غير ممكن وإنما بالاستحواذ عليها نظاماً وكياناً؛ وإيهامها أنها ليست مثل الذكورية؛ فهي أدنى منها وأضعف؛ وأن من المفيد لوجودها أن تنصهر في النظام الذكوري وتسير على وفق مواضعاته التي تعترف بالنسوية كخصوصية جنسانية ليس لها أن تقيم نظامها بنفسها من دون الاتكال على نظام أرسخ منها هو النظام الذكوري.

وبالفعل ظلت النسوية محجّمة الفعل والتوصيف حتى عهد قريب، فلا ينظر إليها سوى حركة سياسية أو تنظيم اجتماعي أو تجمع حزبي أو حقوقي له مطالب محددة أو كتيار فكري جنساني وبيداغوجي يسعى إلى تأكيد حضور ما أو توطيد مسارات وتوجهات تكسبه تأييداً يؤهله لأن يتخصص في ميدان من الميادين البحثية؛ إلى آخر ذلك من المحددات والتحديدات التي هي في تخصصيتها تحرف الحقيقة النسوية وتعيق إمكانياتها وتغيب ماهيتها وأهمية أدوارها الفاعلة والإنجازية.

وليس في جعل النسوية عمومية كالذكورية أية غرابة لاسيما إذا وضعنا في اعتبارنا أن علاقة الانسان بالكون هي منذ بدء الخليقة علاقة تبادلية فيها مارس الإنسان ـ رجلا وامرأة ـ العمومية في شكل دورين حياتيين: دور الإله ودور العبد ضمن طورين حضاريين:

ــــ الطور الحضاري الأول شفاهي ما قبل تاريخي، فيه مارست المرأة عموميتها النسوية كإلهة هي أم كبرى لها بنات ربيبات أو مساعدات، ومارس الرجل عموميته كإله هو ابن للإلهة الأم وربيب لبناتها ومساعد لهن.

ـــ الطور الحضاري الثاني تدويني، ومعه ابتدأ التاريخ البشري الذي فيه مارس الرجل عموميته الذكورية كإله تسيَّد فرداً بعد أن استحوذ على النسوية التي تخلت عن عموميتها أمّاً إلهة ومالكة كبرى فصار عليها أن تمارس اموميتها وعبوديتها معا لذكر هو إله سيد وأب مالك ينظر إليها بوصفها جنساً ثانياً وتالياً ليس له سوى أفعال مخصوصة إنتاجاً وعطاءً.

ومنذ فجر التاريخ وإلى اليوم يحجِّم النظام الذكوري النسوية فتتقوقع صورة المرأة كتابع مملوك ليس له من شأن إلا شأن ظاهري كماهية وأداء.

ولا جرم أن يكون السبب في لجوء الذكورية إلى إيهام المرأة بخصوصيتها هو توكيد فردانية الرجل التي هي عمومية واعتبار هذه العمومية أمراً فرضته الطبيعة البشرية فلا مساواة بين الرجل والمرأة كما لا تناظر بين الذكورية نظاماً بطريركيا، والنسوية كيانا تابعا عليه أن يتطبَّع بهذا النظام. وأن هذا التطبع هو جزء من التكيف الاجتماعي الذي هو بالأساس ميدان طبيعي يدخل في إطار( الفيزياء الاجتماعية)

وقد تطور هذا التصور وتعقد أكثر مع نمو الحضارات البشرية التي فيها صارت إنسانية الإنسان تتنافس مع بعضها بعضاً. وكانت نتيجة هذا التنافس أن صارت في كيفيات التعامل مع الطبيعة الكونية للذكورية الأولوية والعمومية بينما حُكم على النسوية في هذا التعامل أن تكون ثانوية. وصارت الحاجة ماسة إلى وجود صيغ ثقافية او نماذج صورية جاهزة أو مثالية في التكيف الاجتماعي مع التغيير البيئي للنظام الطبيعي يحددها الذكور لأن لهم وحدهم السيادة. وما على الإناث سوى إتباع هذه الصيغ التي بها تترتب مواضعات التفاعل مع البناء الاجتماعي بتعميمات وأسبقيات معروفة.

ولا غرو أن نجد لعلاقة المرأة بالطبيعة حضوراً واضحاً في أساطير سومر وأكد وأشور، وبعضها يعود زمن تدوينها إلى ما قبل نهاية الألف الرابع وبداية الألف الثالث ما قبل الميلاد. وعلى الرغم من أن مرحلة التدوين هي مرحلة فيها تفردت الذكورية بعموميتها على حساب النسوية؛ فإن في ما تضمنته الأشعار الرافدينية ـ التي وصلت إلينا مكتوبة على ألواح فخارية وأوراق البردي وجدران المعابد والمدافن والنصب التذكارية ـ من ذكر لعدد وافر من الإلهات إنما تدلل على ما كان للأنثى من مكانة رفيعة المستوى ككاهنة مقدسة وملكة مبجلة وأميرة وقورة وشاعرة وحكيمة ومنهن انخيدوانا ابنة سرجون الاكدي.

ووفقا للنظرية الجينالوجية وتفسيرات اللاوعي الجمعي اليونغي تكون هذه الأساطير محفورة في الذاكرة بشكل جمعي لا إرادي ومتوارثة جيلاً بعد جيل. وهذا من حسن حظ النسوية، فهي إن لم يتح لها أن تصحح التاريخ المدون الذي طمس عموميتها؛ فإنها بالفعل الذاكراتي اللاواعي تحتفظ بأهمية دورها في بناء الحضارة وإنشاء المدن بعيداً عن أي طمس أو تشويه.

وبسبب هذه التعامدية الوجودبة ما بين فعل التاريخ الطامس كتابياً لدور المرأة في الطبيعة وبين فعل الذاكرة المؤرشف شفاهيا لهذا الدور، صارت الذكورية متزمتة في أمر الطمس هذا من خلال تمسكها بفعل التاريخ وإهمالها فعل الذاكرة. ومع ذلك يبقى هذا في حدود الكتابة وليس خارجها. ومن هنا تبزغ البيئة كوناً يسمح للنسوية بإثبات عموميتها وأصالة هذه العمومية، وهو ما يبدو شاخصا بقوة في الاساطير .

ولقد عرف الإنسان منذ أن بدأ يعي الوجود من حوله أن هذا الوجود ممتد ولا نهاية له فتأمل امتداده فوجد بعضا منه فوقيا سماويا لا يمكن معرفة كنهه بينما كان بعضه الآخر تحتيا سفليا لا مجال للغوص فيه لكن بالإمكان الارتقاء نحو ما هو سماوي والانحدار باتجاه ما هو سفلي من خلال تلمس وجوده الأرضي كخط فاصل منظور بين ما هو أعلى وأدنى ووجوده السماوي كنقطة تلاش في منظور تتلاقى عبره الجهات الأربع بحدود كونية.

وبهذا عرف الإنسان أنه أمام كون لا محدود، فتصور الأرض خطاً ممتداً واعتبر السماء نقطة عليا. أما الحياة فجسد مادي فيه الأرض هي الأم الحضن المهيأ للإخصاب التي ما أن تَسكِب فيها السماء منيها (ماء حياة) حتى تغدو الحياة بسببها كونا يتحد فيه العلوي بالأرضي. وهو ما تتحدث عنه أسطورة مني السماء التي فيها الآلهة اريشكيجال ملكة العالم السفلي قد استبشرت خيرا بهذا الماء فتزينت بالعقيق الاحمر واوراق الشجر وصارت أميرة عذراء وجميلة بجمال السماء فولدت القصب والأعشاب وصارت الحياة خمراً وعسلاً :

الأرض الفسيحة المسطحة لبست تألقها

جمّلت ببهجة جسدها

الأرضَ العريضة، بالمعدن الثمين واللازورد

زينت جسدها

ولا يميَّز الرجل في هذا التصور الأسطوري عن المرأة؛ بل الحديث يظل عمومياً عن إنسان يرى إخصاب الأرض كإخصاب الأرحام التي منها ينبت الضرع والزرع. ومن حسنات هذا التصور العمومي لاتحاد جسد الإنسان بالكون أن عُمرت الأرض في بلاد سومر، وأخذت الحضارة بالتشكل فشُقت القنوات وانبثقت الصهاريج واقيمت مشروعات الري وتخزنت الحبوب وبنيت المعابد وعمت الوفرة والكثرة جميع مجالات الحياة.

من هذه الاسطورة وغيرها ندرك كنه العلاقة الوجودية بين الإنسان وظواهر الطبيعة التي بمحاكاته لأبعادها ضَمِن بقاءه على قيد الحياة. ومنذ ذلك الحين والمكان( الارض ، السماء، الكون) يشكل مركزا في التصورات الميثولوجية للحياة.

وما أن دونت الأساطير حتى طرأ تحول تاريخي على علاقة الانسان الجسدية بالكون، فصار التمييز الجنسي واضحا بين الأجساد الآدمية. ومع تقدم الحضارة وتنوع الأنشطة صار الجسد الأنثوي ـ الذي كان موضع التقديس ـ محرِضا على الشر والخطيئة ومصدرا للغواية والدنس، فاُستغلت المرأة كما اُستغلت الطبيعة وتحولت عموميتهما لصالح الذكر صاحب الحق في استخدامهما كيفما يشاء وبذلك غابت العدالة الاجتماعية في ظل معركة البقاء للأقوى.

وارتباط المرأة بالطبيعة قديم وتقليدي لصلته الوثيقة بجسدها، وهو يعكس حدسها اللاشعوري بأنها جزء من هذه الطبيعة، بيد أن الادبيات الذكورية حولت هذا الخيال في ارتباط المرأة بالطبيعة إلى ما هو عكسي، فاعتبرت المرأة هي المشوهة للطبيعة، وأن بينها وبين تدمير الطبيعة علاقة طردية، خذ مثلا دور المرأة في ملحمة الالياذة التي رسمت علاقة تواطؤ سلبية ما بين الطبيعة والمرأة ضد الرجل أو جعلت تراجيديا الوجود متحققة في المرأة التي تكمن محنتها في الطبيعة المؤدية إلى انهيارها بعواقب الحمل وتغذية النسل تمتص لبنها حتى تجف. وفي أسطورتي باندورا وانتيجون تكون المرأة هي رمز الغواية والانتقام وجلب اللعنة للوجود.

-almadapaper

AM:04:32:06/07/2021