أين اختفت بغداد؟
سعاد الجزائري

قالها وابتسامة تعلو وجهه، وبفخر وإعتزاز: (هكذا أرى بغداد؛ امرأة تجلس بشموخ وكبرياء على منصة عالية، وتضع ساقا على ساق لتؤكد للرائي قوتها وعزتها)..

هذا القول للنحات الكبير محمد غني حكمت، الذي لا أقول عنه كلمة (الراحل)، لأنه يشتد حضورا بيننا كلما تسلق الاطفال والشباب تمثالي كهرمانة وشهريار، او كلما تجمع الشباب والمثقفين تحت تمثال كهرمانه إحتجاجا على موقف ما او لإستذكار صديق تم أغتياله لأن نور فكره غشى عيون الجهلة، فأطفأوا حياته.

وضع محمد غني بغداده على علو شاهق، ورفعها على أكف كلمات أجمل الأبيات التي قيلت عنها من قبل أحد أهم شعراء العراق مصطفى جمال الدين:

بغدادُ ما آشْتَبَكَتْ عَلَيْكِ الأعصُرُ

إِلَّا ذَوَتْ، ووريقُ عُمركِ أخضرُ

مَرّتْ بكِ الدنيا، وصُبحُكِ مُشمِسٌ

وَدَجَتْ عَلَيْكِ ووجْهُ ليلكِ مُقْمِرُ

وَقَسَتْ عَلَيْكِ الحادثاتُ فراعَها

أنَّ آحتمالَكِ من أذاها أكبرُ

في الدول المتحضرة وحتى المتخلفة، لا تمس الأعمال الفنية ولا تُجزّأ، بل ولا يُسمح بتغييرها الا من قبل الفنان نفسه، ويكون التلاعب بالعمل بعد رحيل الفنان أكبر إهانة له وتدنيس لحرمة عمله.

نُصب بغداد، في ساحة الاندلس، ليس جزئين؛ عمود وامرأة بل هو عمل واحد فقط، ويكمل أحدهما الاخر، حيث يفقد قسمه الاعلى (المرأة) معناه بدون العمود وفخامة الكلمات الشعرية، ولا مبرر لوجود عمود وابيات شعرية بدون المرأة، أي ان بغداد كما جسدها محمد غني كرمز لشموخ بغداد وعزتها قد انتهكت كما تم انتهاك المدينة نفسها..

أشاهد الان العمود فقط في ساحة الاندلس عاريا من معناه ومن رمزيته، يقف كاليتيم وسط فوضى الساحة، ولا أجد أثرا لبغداد التي أختفت على حين غفلة منا؟

سألت عن هذه الانتهاك، فقال أحدهم نقلوا بغداد الى مكان آخر، وقالوا، أمرا شنيعا، وهو انهم رفعوا المرأة وزاوجوها ( وليس زوجوها) مع تمثال فنان آخر، وأضاف ثالث بأن تمثال المرأة إستفز الذي يستحرمون جلوسها واضعة الساق على الساق، مكشوفة الوجه والرأس، خاصة والنصب امام جامعة أهلية (محترمة)، فهذا أمر مناف لعاداتنا وتقاليدنا.

إن صح ذلك فلماذا لا يستحرمون سرقة اموال قوت الشعب، او التجارة بالمخدرات التي تأتينا من الارجنتين، أو الزيجات السرية (المحللة) تحت مسميات عدة من الشابات اللواتي يقعن تحت ضغط الحاجة والعوز... إو....أو....أو؟

ان شكل مدينة بغداد لا يخص جهة معينة والتي تمتلك حق الصرف المادي، بل يخص كل العراقيين، لانها عاصمتنا وبوابة العراق الكبرى وشكلها الفني والجمالي لا تتحكم به مؤسسة حكومية لوحدها بل بالتشاور مع الجمعيات والمؤسسات الفنية، وهذا ما دأبت عليه الدول الراقية.

أعود الى نصب بغداد، وأستغرب سكوت محبي الفن عن تشويه الامانة التي تركها لنا محمد غني حكمت، واستغرب سكوت عائلته عن هذا الانتهاك...واخيرا اقول: أين بغداد؟ لان القاعدة التي تحمل بغداد، وحب محمد غني حكمت وجمال الدين مصطفى ينتظروم عودتها، والحليم تكفيه الاشارة.

AM:04:15:19/09/2022