اغتيال الصحافة المستقلة: جبهة بوتين الثانية في حربه على أوكرانيا
محمد خلف

لا يقتصر التضييق على الحريات في روسيا على الصحافة والمدونين، بل يستهدف أيضاً كل منتقدي السلطات أو المسؤولين في وسائل التواصل الاجتماعي. 
وجّه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، رسالة "تهديد مبطنة” إلى الصحافي الروسي المعارض ديمتري موراتوف، الفائز بجائزة نوبل للسلام، قائلاً إنها "لن تحميه من تصنيفه عميلاً أجنبياً في حال مخالفته القانون”، وذلك طبقاً لما أوردته صحيفة "الإندبندنت”. 

بوتين لدى سؤاله عما إذا كان يتعهد بألا يُصنَّف موراتوف "عميلاً أجنبياً”، رد قائلاً: "إذا لم ينتهك القانون الروسي، ولم يُقدِم على شيء يدعو إلى تصنيفه عميلاً أجنبياً، فلن يحدث ذلك”. إلا أنه استدرك القول محذراً موراتوف مما وصفه بـ”محاولة الاختباء وراء جائزة نوبل، واستخدامها كدرع لانتهاك القانون الروسي، ولفت الانتباه إليه”، مضيفاً: "هذا يعني أنه يفعل ذلك عمداً لجذب الأنظار إليه أو لسببٍ آخر. في حين أن الجميع، مهما كانت إنجازاتهم، يجب أن يلتزموا بالقانون الروسي”. جاءت تحذيرات بوتين المبطنة، في مقابلته مع مذيعة الأخبار الأميركية هادلي غامبل على شبكة CNBC. كان هذا بمثابة الانذار الاول من حاكم روسيا إلى الصحافيين الروس المعارضين من عواقب التمرد على مصادرة حقهم في نقل المعلومات إلى الجمهور الروسي، وإبداء آرائهم ومواقفهم حيال السياسات التي ينتهجها في إدارة الدولة، أو استخدام تعابير يعدها النظام انتهاكاً للقوانين الروسية، التي أراد من خلالها خنق الحريات العامة وتحجيم دور الصحافة. 

نوبل ليست درعاً للاختباء
تهديد بوتين يعود إلى قيام الكرملين بتشريع قانون مثير للجدل عام 2012 لاستخدام بنوده كمبرر عند استهداف المنظمات غير الحكومية. فلقد صنف هذا القانون الكثير من الهيئات والأفراد على أنهم "عملاء أجانب”. وبالتالي فإنه بحكم هذا التصنيف يتحتم عليهم الكشف عن الجهات التي تمول مؤسساتهم. لم يكن مفاجئاً أن يشهد المجتمع الروسي والعالم استعراضات تم التخطيط لها خلال السنوات الاخيرة عند استخدام هذا القانون لقمع صحافيين ومنافذ إعلامية مستقلة. موراتوف المشهور بجرأته وصراحته وشجاعته لم يترك بالطبع تحذير بوتين يمر من دون رد فعل، إذ علق بشكل مباشر ومن دون مراوغة على بوتين قائلاً في تصريح لوكالة Interfax الروسية للأنباء إنه "لن يتراجع خوفاً من النظام الروسي” وأشار إلى أن "الدولة يمكنها أن تفعل ما تشاء، لكننا سنقبل الجائزة، ولن نتنازل عنها”. وأضاف موراتوف، الذي يرأس تحرير إحدى الصحف المستقلة بروسيا، صحيفة Novaya Gazeta، أنه لن يرفض الجائزة كما فعل الكاتب الروسي بوريس باسترناك، الذي أُجبر على رفض جائزة نوبل للآداب عام 1958 بضغط من النظام السوفياتي. 

تحتجّ روسيا على التعامل الغربي مع مؤسسات إعلامية يمولها ويحدد سياستها الكرملين مثل قناة "آر تي في” و”سبوتنيك”، اللتين تم حظرهما في أوروبا والولايات المتحدة، تبدو الشيزوفرينيا السياسية لموسكو فاقعة في ملاحقة الصحافة المستقلة والصحافيين المعارضين، التي تحولت إلى جبهة الحرب الثانية بعد اجتياح أوكرانيا، إذ أطلق بوتين حملة واسعة لقمع الاعلام المستقل أو المعارض داخل البلاد.

هذا الواقع دفع بالصحافة المستقلة الروسية إلى مغادرة البلاد بعد تداعيات غزو أوكرانيا، فمثلاً قال صحافيون روس من ، إنهم بصدد إطلاق منبر إعلامي جديد في أوروبا، بعدما علقت صحيفتهم أنشطتها بسبب تحذيرات تلقتها من السلطات. 

أُنشئت "نوفايا غازيتا” بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وتعرضت الصحيفة وصحافيوها للترهيب والاعتداء بسبب التحقيقات في انتهاكات الحقوق والفساد، وقُتل 6 من صحافييها بسبب عملهم. 

وأعلن رئيس تحرير المشروع الجديد كيريل مارتينوف، في بيان: "نحن، صحافيي (نوفايا غازيتا) الذين أُجبروا على مغادرة روسيا بسبب حظر افتراضي على مهنتنا، يسعدنا أن نعلن أننا نعمل على (نوفايا غازيتا أوروبا)، التي تشاركنا قيمنا ومعاييرنا”. 

في اليوم نفسه، قال الصحافي الروسي ديمتري موراتوف الذي كان يرأس تحرير "نوفايا غازيتا”، والفائز بجائزة نوبل للسلام العام الماضي، إنه تعرض لهجوم على قطار روسي من قبل مهاجم ألقى عليه طلاء أحمر، ما تسبب في إزعاج شديد لعينيه. وأضاف موراتوف، لـ”نوفايا غازيتا أوروبا”، أن الهجوم وقع على قطار متجه من موسكو إلى سامارا. 

بحيرة البجع- عنوان الوداع الأخير
كان آخر ما رآه المشاهدون في 3 آذار/ مارس هو تسجيل بالأبيض والأسود لرقصة باليه تشايكوفسكي في بحيرة البجع من الحقبة السوفياتية. بعد دقائق، اختفت قناة Dozhd TV، وهي القناة التلفزيونية المستقلة الوحيدة المتبقية في روسيا. وقف بث القناة كشف بشكل عميق إلى أين يقود بوتين روسيا، ولهذا لم تفاجئ المراقبين قرارات حظر مؤسسات الميديا المستقلة كلها . يتفق خبراء الميديا الروس على ان هذه الخطوة ستترك ارتدادات خطيرة ليس فقط على الإعلام المستقل في روسيا، بل على مستقبل الصحافة هناك، وستمس حقوق الإنسان في روسيا عموماً. ربما يكون بوتين اشبع بتصفيته الصحافة المعارضة، جبروت غروره ونزعاته النفسية المتفجرة تحت ضربات انهيار جيشه (الجبار) وأسلحته الفتاكة، التي ظل يفخر بإنجازاتها في غروزني وسوريا وليبيا وغيرها من بلداننا البائسة، إلا أن صدمته بعودة بث قناة "دوجد”، عبر تطبيق "تلغرام” أطلقت العنان لعدوانيته ضد المحتجين الرافضين لحربه على أوكرانيا. وكان رئيس تحرير القناة تيخون دزيادكو أعلن في وسائل التواصل الاجتماعي عن فراره مع عائلته من روسيا. 

قبل نحو 12 عاما شهدت روسا حدثا بارزا فاق التوقعات على خلفية توجه الكرملين المتنامي نحو خنق الحريات الصحافية،ففي العام 2010 وللمرة الأولى بثت هذه القناة التلفزيونية المستلقة برامجها ما أشاع في الدوائر السياسية والتجمعات الثقافية مناخاً من التفاؤل، بخاصة في أوساط الشباب من اللبيراليين المتطلعين إلى اندماج بلادهم في موجات الديموقراطية والانفتاح على الثقافة العالمية، ونبذ الانغلاق والتعصب الديني والثقافي والتطرف السياسي. ما حصل هو أن عدوان بوتين على أوكرانيا الذي سماه الكرملين عملية عسكرية رافقه عدوان ليس أقل قسوة وبشاعة على الصحافة الروسية المستقلة. 

 اختيار بحيرة البجع بحسب مجلة ( الايكونوميست)كان رمزياً، اذ ان القنوات التلفزيونية السوفيتية كانت عرضت الرقصة نفسها في 19 آب- أغسطس 1991، عندما حاول (الكي جي بي) والجيش الانقلاب على ميخائيل غورباتشوف. الروس الذي ينتمون إلى هذه الحقبة الزمنية يتذكرون قيام هاتين المؤسستين بإعلان حالة الطوارئ في روسيا، وما رافق ذلك من إغلاق ولو لفترة وجيزة اذاعة صدى موسكو، وهي المحطة الإذاعية الليبرالية الرئيسية في روسيا، كما وتم إيقاف مطابع الصحف وخصوصاً تلك القريبة من قيادة الدولة آنذاك. قيام جنرالات الأمن والجيش الانقلابيون بإغلاق هذه الميديا كشف عن فرط غبائهم وضيق أفقهم لأنهم أثاروا اهتمام الروس وانجذابهم إلى إذاعة Echo of Moscow، التي باتت منذ ذلك الحين، الميديا المفضلة لملايين المشاهدين الراغبين في متابعة الأخبار والمناقشات والبرامج الحوارية. 


AM:03:49:14/04/2022