هل الألم خصم الزمن؟
إبراهيم الكوني

بقدر ما الأمل حميم الزمن، بقدر ما الألم خصم الزمن، بدليل أننا لا نستثقل الإحساس بالزمن إلّا في حضور البليّة، في حين نشكو من سرعة انقضاء الأيام بهيمنة السلم، وعموم البحبوحة. فالرخاء أفيون الزمن، وليس الترف الذي لا يكتفي بأن يلغي فينا الإحساس بالزمن وحسب، ولكنه يفترس فينا الإحساس بالوجود برمّته.

 وفي حال إنسان مثلي، أُبتُلي بحساسية مفرطة في العلاقة مع هذا اللغز الذي استعرنا له في معاجمنا إسم الزمن، فإن الإحساس به كان في حياتي هاجساً لجوجاً دوماً: لا أطيق حضوره، فأشكو وطأته، ولا أحتمل غيابه، فأتحسّر على فراره، مثلي في ذلك مثل كل المستنفرين، الموسوسين، الذين يستنكرون أن يلعب الزمن في المهزلة الأرضيّة دوراً دنيوياً، لأن ما يليق به هو موقف الحياد، الذي يشاهد فيه اللعبة من وراء حجاب، تاركاً خشبة المسرح للظلال التي تكتم بنشاطها أنفاس الارض، في حمّي استثمار حضورها على الأرض.

ولكن هيهات! لأن الحضور في حضرة الأرض، إنّما هو رهين حضور حضرة الزمن في مجال الأرض. ولذا فالعلاقة مع الزمن، قدرٌ لا يبيح له الوقوف موقف المتفرّج على ملهاتنا البشرية، لأنه هو المخوّل بلعب دور البطولة في فصولها: فصولٌ الأرض لها مجرد ساحة، خشبة، موضع، نصّبته الفلسفات، في المعادلة، مكاناً، ليغدو هذا المكان شريكاً ثانياً في صفقة وجودٍ، يبقى برغم كل هذا التدبير، فانياً بطبيعته.

ففي مطلع هذا القرن جاهرت بالشكوى من فرار الزمن في حضرة أخي الأكبر بكّدة الكوني، فلقّنني درساً يقول في الفحوى أن سرعة انقضاء الزمن إنّما تكمن في هيمنة رخاءٍ هو دوماً رهين سِلْم، وبغياب هذا الشرط، فإن اللحظة تنقلب يوماً، واليوم ينقلب شهراً، والشهر ينقلب عاماً. وقد برهنت عشرية الحرب الأهليّة في الوطن تالياً، صواب هذه الفتوى.

وهي فتوى ذكّرتني بوصيّة العزيز صادق النيهوم، ترجع إلى عام 1985، عندما اعتدتُ القيام بزيارته في جنيف، إبّان مقامي في وارسو، وجاهرت بشكوى مماثلة عن الطبيعة العدمية في سيرورة الزمن في واقعنا، فما كان من صادق إلّا أن علّق المسئولية على مشجب التسلية!

وأحسب أنه لم يخطيء أيضاً، لأن التسلية هنا سوف تلبّي نداء أفلاطون، المترجم في وصيّته عن وجوب أن يحيا الإنسان دنياه لاهياً. وأن يحيا لاهياً بالطبع لا يعني أن يحيا مستهتراً، كما قد يتوهّم البعض، ولكن أن نعمل ما من شأنه أن يحوّل عملنا، الذي وُجدنا من أجله، ضرباً من لهو، لكي نحتال على طبيعتنا المهووسة بكل ما هو لعبٌ، كي تروم العمل، كي تروّض نفسها على العمل، لا بوصفه نشاطاً دنيوياً نجني من ورائه قُوْتاً، ولكن العمل هنا في بُعدٍ أبعد منالاً، وهو الإحساس بأداء دَيْنٍ مقدّس، اعتدنا أن نسمّيه: الواجب!

فعندما يستعير العمل هوية الواجب، نربّي أنفسنا على اعتناق هذا الواجب في ممارستنا ديناً، لا يختلف عن ممارستنا للشعائر اليومية، لا يتغلغل في وجداننا كعبادة، ما لم يكن مشفوعاً بنفحة لعب!

دمج العمل، بنزعة اللهو، في تتويج الواجب، على عرش وجود نعلم كم هو هشّ، هشّ بسبب قناعتنا بسليقته الفانية،هو ما يحقق قطب أحلامنا، وهو: السعادة!

السعادة كعزاء في محنة فرار الزمن بحياتنا، لأن حياتنا نسيجٌ محبوكٌ من الخيط ذاته الذي لفّق وجودنا، والأفضل من أن نكون شهود عيان على مكيدته في سحب البساط من تحت أقدامنا، هو أن نستجير بلهونا، المشفوع بتعويذة الواجب، لأن في هذا تسكن كل ذخيرتنا.

فاللهو، في سفر الوجود، وثيقة. جواز سفر. والواجب هو الفحوى في هوية السفر.

الحياد؟

أي حياد يمكن أن يعترف به الزمن في حقّنا بعد أن قبلنا بصفقة العهد المبرم مع جناب ميفستوفلس؟ هل نضمن ألّا نسقط صرعى الإخلال بالميثاق، تماماً كما سقط فاوست عندما اقترف خطيئة الإستسلام للإغواء، فاستجدى «لحظة العجب» أن تتوقّف، فتوقّف فيه القلب؟
فالزمن آلى على نفسه ألّا ينسحب من الصفقة، ويقبل بالحياد، فقط في حال انسحب من خريطة الوجود المكان.


AM:02:33:17/04/2022