غرفة الأخبار في الجزيرة نت قبل الانطلاق..كنت هناك في ساعة الصفر
عبد الحكيم طه


في بدايات عام 2000 حطت قدماي أرض الدوحة المعطاءة، وكان الغرض زيارة شقيقي الأكبر تلبية لدعوة قدمها لي، لم أكن أتخيل أن تتحول إلى إقامة مستمرة حتى الآن.
تلقفت من الزميل "الكبير" محمد الكبير الكتبي الصحفي المعروف بقناة الجزيرة، وزميلي السابق بالإذاعة السودانية نبأ تأسيس موقع إلكتروني للقناة، والحاجة إلى عدد معتبر من الصحفيين، فسارعت إلى ذلك مدفوعا أيضا بتشجيع من الزميل الزبير نايل المذيع بالقناة، وتلقيت الموافقة مباشرة من الأستاذ محمود عبد الهادي مدير الموقع على أن أحاول البقاء في قطر حتى يحين الموعد.

فبقيت على كفالة شقيقي عدة أشهر إلى أن اتصل بي الزميل عامر القضاة -المنسق الإداري آنذاك- لألتحق بمن وصل من الزملاء الجدد إلى الدوحة في مايو/أيار 2000، ومنذ ذلك الحين أصبحت عضوا في القناة ضمن طاقم موقعها الإلكتروني لأبدأ مع الزملاء مرحلة التأسيس.

لم تكن مرحلة سهلة؛ لكن قبل أن أغوص في تفاصيلها أود أن أعرج على شعوري، وأنا ألتقي بمجموعة رائعة من الصحفيين من كل أنحاء الوطن العربي، بثقافاتهم ولهجاتهم المختلفة.

لحسن الحظ تم إسكان كل هذه المجموعة في مجمع سكني واحد؛ ليحدث انصهار الثقافات والخبرات في سلاسة وسرعة، فصرنا كأننا نعرف بعضنا البعض منذ سنين طويلة خلال أيام قليلة.

لم أشهد أي خلاف أو اختلاف؛ بل على العكس كان الجميع ودودين ومحبين لغيرهم، ولم تباعد بيننا لهجة أو ثقافة أو فكر، فالكل أعجب بالكل، وحدث الانصهار، فصار الجميع إخوة متحابين متكاتفين متعاونين.

مثلت هذه المجموعة حقيقة الأمة الواحدة، التي فرقت بينها السياسة والأنظمة والحدود المصطنعة، وكان بيننا من يجيد نشر الابتسامة والفرح في النفوس، فعشنا مع بعضنا كما يعيش الإخوة في البيت الواحد.

نعود إلى مرحلة التأسيس الصعبة، التي أدى فيها الأستاذان مدير الموقع محمود عبدالهادي ورئيس التحرير أحمد الشيخ الدور الأبرز، وما بين عطف المدير وشدة رئيس التحرير تخرجت الدفعة الأولى المؤسسة ترمي بسهم واحد في منظومة أريد لها النجاح منذ اليوم الأول.

كان الخطأ في البدايات لا يغتفر، وكانت الشدة مطلوبة حتى يستقيم الأمر بسرعة، ولم نتفهم تلك الشدة إلا بعد أن استقام الميسم وأينعت الثمار وخرج الموقع عملاقا منذ انطلاقته.

اعلان
كلما اقترب موعد الانطلاق اشتد الوطيس وزادت الحركة، وارتفعت وتيرة الشدة وعدم التسامح مع الأخطاء؛ لكن كل ذلك كان يتم والجميع راضون، فما نحن مقدمون عليه لا يحتمل أي خسارة، فسمعة القناة لن تحتمل أي تصدع في ركن من أركانها، وهذا ما جعل كل واحد من الفريق يسارع إلى تطوير نفسه، وتصحيح مساره، وسد النقص، وردم أي ثغرة تجعله أقل شأنا من غيره.

وصار كل ما عانيناه في البداية ذكريات جميلة تضحكنا كلما تسامرنا واسترجعنا تلك الأيام والأشهر، فقد تعلمنا من الأستاذين ما كنا نفتقده سابقا، فقد أتى معظمنا من وسائل إعلام محلية، تخاطب فئات مجتمعية محدودة؛ لنتعلم كيف نخاطب العالم الناطق باللغة العربية، ونقدم له المعلومة الصحيحة بلغة سهلة، معتمدة على المصادر الموثوقة، بعيدا عن التكرار والحشو.

بل إن بعضنا (وأنا منهم) حضر من بيئة كان الإنترنت فيها محدودا، ولا يحظى به إلا ذو حظ عظيم، رغم أنني كنت أجيد التعامل مع الحاسوب والطباعة؛ إلا أنني لم أكن من أصحاب ذلك الحظ (الإنترنت) رغم أنني قرأت عنه الكثير.

أتى الجميع بخبراتهم السابقة؛ لتمتزج مع التطور، الذي حدث ويحدث في مجال الإنترنت وتطبيقاته، فتعلمنا من بعضنا البعض بسرعة، وما كان أحد يبخل على الآخر مطلقا في علم أراده منه، أو حتى مال.

في اعتقادي أن من أهم أسباب نجاح الموقع، أن إدارة القناة جعلت الجميع يقيمون في مكان واحد في بداية الأمر، وفي الوقت نفسه يعملون في مكان واحد؛ مما جعلنا نقيم مع بعضنا طيلة اليوم، ولا تفرقنا إلا ساعات النوم.

فكان اليوم ممتلئا بالنقاش والتعليم وتبادل الخبرات، وتعلمنا من بعضنا الترجمة الصحفية والتعامل مع الحاسوب، وبراعة التعامل مع الإنترنت، وقواعد اللغة العربية، فكان بيننا المدققون اللغويون، ومن درسوا اللغة الإنجليزية وتخصصوا فيها، ومن كان لهم سابقة تجارب في التعامل مع الإنترنت والحاسوب.

كلما اقترب موعد الانطلاق اشتد الوطيس وزادت الحركة، وارتفعت وتيرة الشدة وعدم التسامح مع الأخطاء؛ لكن كل ذلك كان يتم والجميع راضون، فما نحن مقدمون عليه لا يحتمل أي خسارة، فسمعة القناة لن تحتمل أي تصدع في ركن من أركانها، وهذا ما جعل كل واحد من الفريق يسارع إلى تطوير نفسه، وتصحيح مساره، وسد النقص، وردم أي ثغرة تجعله أقل شأنا من غيره.

وضعنا معا دليل الموقع التحريري، وشكل الموقع، وأقسامه المختلفة، وألوان صفحاته، وبدأنا قبل الانطلاق بتعبئة جميع الأقسام بالمواد، وكلما اقترب الموعد كلما ازددنا حماسا.

وكنا نبحث عن الأقسام، التي تحتاج للمزيد من المواد، فينبري لها بعضنا بحثا وتحريرا وتنفيذا، وكان الإرهاق، الذي نعانيه في ذلك، متعة لا تدانيها متعة حينما بدأنا نرى ثمرة ما زرعته أيدينا، وبدأ الموقع يكبر شيئا فشيئا أمام أعيننا، وصرنا ننتظر اليوم الذي يرى غيرنا ما قدمت أيدينا.

لم نشهد أي صراع في تلك الفترة كالتي تشهدها أروقة العمل في أي مكان وزمان؛ بل على العكس تماما، كان كل واحد منا يعمل من أجل إنقاذ زميل له يتعثر في جانب من جوانب العمل، فكانت القلوب مؤتلفة والنفوس صافية، وكل منا مقتنع بما هو فيه الآن، فالهدف الأول حاليا هو خروج موقع الجزيرة نت بصورة مشرفة ترفع هامة الفريق المؤسس من أعلى الهرم حتى أدناه.

وجاءت ساعة الصفر، وأذكر أننا قضينا آخر يوم من عام 2000 منذ الصباح وحتى الساعات الأولى من صباح الأول من يناير/كانون الثاني 2001 بدون كلل أو ملل.

وكانت تلك الليلة عرسا لكل أعضاء الفريق، أجواء لا توصف حين بدأ العد التنازلي لينتهي بانطلاقة الموقع عبر الشبكة العنكبوتية في أول ثانية من العام الجديد، كأول موقع إخباري عربي.

ومنذ تلك اللحظة صار القليل، الذي يمكن التسامح به، محرما تماما، فلا مجال للخطأ بدون محاسبة، فالموقع صار الآن يطوف كل البلدان، ويستطيع الوصول إليه كل ناطق بالعربية.

دورة الخبر في الموقع -خصوصا في البدايات- كانت طويلة؛ لكن لها ضرورتها حتى تخرج المادة مبرأة من كل عيب.

فبعد أن يفرغ منها الصحفي يتناوب على قراءتها مساعد لمدير التحرير، ثم مدير التحرير، ثم مدقق لغوي ومنه لمدقق لغوي آخر، ثم تعود لمدير التحرير مرة أخرى؛ ليطلع عليها قبل أن ترى النور، وربما يمر عليها أيضا رئيس التحرير ومدير الموقع إذا كانا في موقع العمل في ذلك الوقت.

وحتى بعد أن تنشر، فإن ذلك لا يعفيها من المراجعة؛ لتصحيح ما تفلت من أخطاء معلوماتية أو لغوية.

بمرور الزمن تقلصت قليلا دورة الخبر بعد أن تمرس الجميع، وأتقن كل فرد عمله، وقلت الأخطاء.

خلال السنوات الـ20 غادر من غادر إلى مكان آخر، وانتقل إلى جوار ربه من زملائنا من انتقل؛ ليحل محلهم زملاء أكفاء لحقوا بنا في فترات متفاوتة، فوجدوا الطريق معبدا أمامهم، ليضيفوا إلى الموقع من خبراتهم وتجاربهم، وكل منهم قدم وما بخل في سبيل تطوير الموقع وما زالوا يسهمون عطاء غير مجذوذ.

-aljazeera


PM:03:04:06/01/2021