حصلَ الفن العفوي أو الخام على أهمية كبيرة في تاريخ الفن، بعد أن تعرَّفَ الناس والمتابعين على أعمال مبدعين مثل روسو وسيرافين ودوبوفيه وغيرهم.
ستار كاووش

وها أنا أقف اليوم وسط متحف خاص بالفنان الفطري الهولندي رورد فيرسما (١٩٠٤-١٩٨٠) والذي يبعد عن مرسمي نصف ساعة بالسيارة. أُقيمَ هذا المتحف في البيت الذي عاش فيه هذا الفنان بمقاطعة فريسلاند الشمالية، وقد طلاه من الخارج باللون الأبيض، بينما جعل لون الأبواب والشبابيك بلون أحمر، ومع الشريط الأسود الذي أحاط الجدران من الأسفل وعتبة الباب المستطيلة بلونها البرتقالي، بدى البيت لأول وهلة كإنه لوحة كبيرة لموندريان. كان الرواق المؤدي الى البيت (المتحف) ضيقاً لكنه يكفي للمضي نحو الباب الرئيسي. وصلتُ هناك مبكراً، وما أن إقتربتُ من المدخل، حتى أَطَلَّتْ من الجهة الأخرى امرأة بدراجتها الهوائية وثوبها الأزرق الواسع الذي ترفرف أذياله في الهواء، وبعد أن أوقفتْ دراجتها إقتربت مني هذه المرأة النشيطة وهي تمسك مفتاحاً فتحت به الباب وقالت مرحبة (أهلاً بك في عالم رورد فيرسما، أنت أول زائر هذا اليوم).

في الداخل، تأملتُ الأعمال والتفاصيل وكل ما يتلق بهذا الفنان الذي عاش حياة غريبة، بل كان يشعر بالغربة حتى وهو بين الناس الذين يعرفهم وينتمي إليهم. كان فيرسما يرسم فقط أيام الأحاد، بسبب إنشغاله بعمله الذي كان يتطلب منه أن ينقل بزورقه براميل الحليب من الفلاحين ويوصلها عند نهاية النهار الى مصنع الحليب في المقاطعة، وهكذا قضى سنوات طويلة من حياته وسط القنوات المائية ينقل الحليب من المزارعين الى المصنع.

حتى جاءت اللحظة التي غيرت مسار حياته كلها، حيث خرج مسرعاً ذات يوم ونسي الموقد النفطي مشتعلاً، وحين عاد وجد إن جدران البيت قد غُطيت بطبقة سواء بفعل الدخان. وبعد نصيحة من أحد الجيران، قام بطلاء جدران البيت كلها باللون الأبيض، لكنه حين وقفَ وسط البيت بدى له هذا البياض مملاً وليس فيه حياة، لذا قرر أن يرسم بنفسه على كل جدران البيت مباشرة، وهنا تفجرت موهبته ومضى يرسم أشياءً غريبة ربما لم يفهمها الجيران، حتى أن أطفال القرية كانوا يتلصصون عليه وهو يرسم، وفي كل مرة يقوم بطردهم، لكنهم يعودون لمراقبته من جديد.

وهكذا رسم الفصول الأربعة على جدران غرفة المعيشة، ومضى في رسم البيت الذي استغرق منه خمس سنوات كاملة، والغريب في أمر هذا الرسام، هو إنه لم يستعمل الألوان التي إعتاد الرسامون على استعمالها، بل رسم كل لوحاته بالألوان الخاصة بطلاء الدراجات الهوائية، وهذا ما يفسر البريق الغريب الذي يشع من أعماله.

مع الوقت، بدء الناس ينتبهون لوجود هذا الرسام الغريب ولوحاته الأكثر غرابة، وبما إن غالبية الناس لم يفهموا الفن الفطري بشكل جيد، لذا بدت لهم رسوماته كإنها رسومات أطفال صغار. بعد الإنتهاء من رسم جدران البيت توقف رورد عن عمله كناقل حليب وإكتفى بالرسم رغم سوء أحواله المعيشية، حتى بدء الناس يزورون -بدافع الفضول- هذا البيت الغريب الذي ملأته الرسومات، وبدأ إسم الفنان ينتشر خارج قريته ليصل الى أطراف المقاطعة، وذلك لأنه لم يكتف بالرسم على الجدران أو اللوحات، بل تعدى ذلك الى كل الأشياء والتفاصيل التي يستعملها، فقد رسم على أحذيته، وكذلك على ساعات الحائط وحاويات الفحم الذي يستعملها للتدفئة، كذلك وصلتْ فرشاته لباب ودولاب المطبخ والطاولة وحتى قناني النبيذ.

كان الكثير من الناس ينظرون الى هذا الفنان كشخص غريب الأطوار ويعاملونه بجفاء، وقد إبتدأت معاناته مع الناس قبل هذا الوقت، حين رفضت عائلة حبيبته تزويجها إياه، وأرسلتها الى لاهاي البعيدة لتعيش عند عمتها، وكان هذا الحدث أول إنكساراته، وتكرر الأمر بعد سنوات مع حبيبته الثانية، التي انتهزت إلتحاقه بالجيش أثناء الحرب العالمية الثانية، لتستولي على كل شيء يملكه وتهرب مع رجل آخر، وحين عاد من الحرب، إستجمع كل طاقته للوقوف من جديد محاولاً تعويض خساراته بالرسم، وكإنه ينتقم لكرامته وحبة وروحه من خلال الجمال الذي يصنعه، مثلما إنتقم من جاره الطويل والضخم الذي ينتمي للعائلة التي حرمته من حبيبته الأولى، حيث كان هذا الرجل يسخر منه دائماً، فلم يكن لهذا الفنان سوى أن يرسمه واقفاً مع زوجته وقد غيَّرَ هيئته كثيراً، ورسمه بحجم صغير مثل القزم بينما انتصبت قربه زوجته بهيئة عملاقة.

تجولتُ في هذا المتحف الصغير وإنتبهتُ الى إن هذا الفنان قد جعلَ كل النوافذ التي رسمها في لوحاته مفتوحة، وليس هناك نافذة واحدة مغلقة، وحين قرأت عنه بعض التفاصيل وجدت إنه كان مصاباً بضيق التنفس، لذا لم يكن يحب النوافذ المغلقة التي تعيق تنفسه، وجعلها مفتوحة في الواقع وفي اللوحات أيضاً. في سنوات فيرسما الأخيرة ساءت صحة كثيراً، ورقدَ بعض الوقت في مستشفى القرية، وهناك فوجيء بالرعاية والحنو الذي أغدقته عليه إحدى الممرضات، وشعر بسعادة لم يشعر بها من قبل، رغم إقتراب أيامه الأخيرة.

وعند وفاته عثروا على مفاجأة في وصيته، حيث أوصى بالبيت واللوحات وكل ما يملك لتلك الممرضة الحانية. وقد قَدَّرَتْ هذه الممرضة التي تشبه الملاك، قيمة هذه الهدية العظيمة، فإتفقت مع المستشفى على جعل البيت متحفاً لهذا الانسان الوحيد والمنعزل والجميل. وبفضل تلك الممرضة الجميلة، أقفُ الآن هنا وسط هذا المتحف الذي يأتي الناس من كل هولندا ومن وخارجها أيضاً لرؤية أعمال رورد فيرسما ومعرفة حكايته التي تناقلتها القرية من جيل الى آخر.


AM:03:44:29/08/2022