أما آن الأوان لرفع أستار التغييب؟
نادية هناوي


الفيلسوف هادي العلوي

أما آن الأوان لرفع أستار التغييب؟ –  نادية هناوي

كنتُ في كتابي( نقائص ونقائض علي الوردي في الميزان) قد شخّصت ظاهرة التصنيم التي شاعت في المجتمع العراقي والمؤسسات الثقافية والإعلامية قبيل عام 2003 وترسخت بعد ذلك بشكل جلي، فصُنمت أسماء أعلام بعينها، وغدا ظهورها الصارخ والمفرط أحجار عثرة تغطي وتُعمي، حاجبة أعلاما أخرين من أولئك الذين يعادلونها في الأهمية والقيمة ولكن يخالفونها في التوجهات والأهداف والأدوات والتمثلات والممارسات ممن لا تلقى طروحاتهم هوى لدى وارثي المؤسسات الراهنة.

دور مهم

ولظاهرة التصنيم مخاطرها التي صرنا نلمس مزيداً منها في الآونة الأخيرة، ومن ذلك مثلا تصنيم أعلام ممن هم أدنى إبداعاً وأقل علماً وانجازاً ممن حُجبت أسماؤهم وغُيبوا. وتلعب الماكنة الإعلامية بأساليبها ووسائلها دورا مهما في جعل أسماء شعراء أو كتّاب في قمم عالية كأصنام ذات رمزية وربما قدسية بوصفها هي الاوحدية في ميدانها، وذات الأهمية التي لا قبلها ولا بعدها. وتغدو الخطورة أشد هولا وعنتا في من هم سدنة تلك الأصنام الذين تدفعهم مصالحهم الآنية والشخصية نحو إظهار الولاء والحَميّة والتبعية المنقطعة النظير لصنمهم. وقد تصل حد العجب في التعصب والتطرف والتعادي والتصادي مع من لا يظهرون مثلهم ولاءات الطاعة والسدانة كونهم ليسوا من الفئة نفسها أو لأنهم لا يشتركون معهم في المصالح أو لوعيهم بحقيقة الصنم الجوفاء.

وليس وراء المغالاة في إظهار السدانة للصنم سوى التعصب والتكتل والفئوية التي معها يكون التغليب والتكاتف في التوجهات وحصد المكتسبات متحققا لصالح المصنم اسمه وحده. ولتذهب إلى النسيان سائر أسماء الإعلام من الأدباء والعلماء والمفكرين أصحاب الانجازات والعطاءات الجلية والحقيقية.

هذه المخاطر الناجمة من السدانة إلى أصنام معينة هو الذي يقودني إلى معاودة الكتابة في ظاهرة التصنيم التي تتلون صورها وتتعدد أبعادها فتتسع من ثم مساحات التمثيل عليها، وتغدو بحاجة أكثر مما مضى إلى التشخيص بقصد التصدي لها وإشهار عيوبها ومعالجتها بكل الوسائل الممكنة.

وإذا كانت مخاطر التصنيم تتفاوت بحسب المناحي التي تمت بصلة إليها، وبحسب الميادين الحياتية التي تطالها، فإن الميدان الثقافي ووقائع مشهديته الراهنة هو ما يهمني في هذا المقال بعد أن استجدت داخل واقعنا مناح غير مسبوقة في التصنيم وعلى وتيرة أكبر مما مضى وأشنع.

ولقد كانت ظاهرة تصنيم علي الوردي هي الواضحة سابقا لكنها اليوم تبدو بسيطة أمام تصنيم من نوع آخر لأسماء لا لون لها ولا طعم ولا رائحة عبر إبداء السدانة لها لأسباب وعوامل لا تخفى على من هو خبير بالوسط الثقافي العراقي ومآلاته في ماضيه القريب وحاضره الراهن. ومن المظاهر المستجدة في التصنيم أن الصنم لم يعد يشترط فيه أن يكون راحلا عن دنيانا، بل هو حي يرزق، ومع ذلك يُصنَّم في حياته كشاعر أوحد أو كناقد لا نظير له أو كمفكر لم تنجب الأمهات مثله. ومن المظاهر أيضا أن الصنم في الغالب يأتي على متن طائرة مستقدماً من بلاد الثلج أو الربيع ليستقبل بحفاوة الصنديد الذي فتح روما ودحا باب خيبر. واستقباله الحافل ليس لأنه عائد كي يستوطن بلده، بل لكي يلقي بتلويحاته المباركة على من لا حظ له من السدنة، لعلهم يصيرون مثله ذات يوم، ويسكنون بلاد الغربة ويعودون بعد حين كالمنتصرين الفاتحين.

ومن مظاهر التصنيم المستجدة تسخير إمكانيات إعلامية ودعائية تهريجية وبأشكال شتى لصالح الاسم الصنم من قبيل طباعة ما هب ودب من كتاباته الخرقاء أو إغداق الهبات عليه بجائزة من هنا وبمؤتمر من هناك أو عمل ندوة له هنا وإلقاء خطبة هناك وكل ذلك مشفوع ومتبوع بإبداء الطاعات والسدانة المحترفة على طريقة من اتخذ إلهه هبل.

إن هذه الوتيرة المتصاعدة من مستجدات التصنيم التي تمارس على مستويات مؤسساتية عالية وتسخر فيها مركزية ما تملكه تلك المؤسسات من إمكانيات كي تضيعها شذرمذر على أصنامها، هي ليست بلا غايات، بل هي مدفوعة الثمن ومرسومة الأبعاد لمستقبل قريب يريد من ورائه السدنة أن ينالوا ما ناله الصنم من هبات وحظوظ وحصص بين ليلة وضحاها وبلا كد أو تعب.

ومع أن ما يفعله السدنة مع أصنامهم هو خاص بهم وعلى قدر مقاسات تمنياتهم ومآربهم المشبوهة، غير أنه لا يذهب بهم إلى الطوفان وحدهم، بل يترك آثاره الجسيمة ويعقب خلفه واقعا أليما يتمثل في جيل جديد سيشب وهو مغرر به ومغلوب على أمره، فلا يعرف من هم الأعلام العراقيون أصحاب الإبداع الحقيقي، ويعيش من ثم حياته مغمض العينين يسير على وتيرة السدنة مع أصنامهم الذين جاءوا بهم من الخارج أو الذين عاشوا في الداخل وهم لا بالعير ولا بالنفير.

وآن لهؤلاء السدنة أن يتقوا الله في الاجيال الجديدة التي بمرور الزمان ستنسى عشرات الأسماء الشعرية والأدبية والفكرية ممن يعدلون أصنام المؤسسة الرسمية أو يتفوقون عليها في الأهمية العلمية والمنزلة المعرفية بسبب ما قدموه من منجزات وما أدوه من أدوار فريدة في شكل ريادات وعطاءات وتخصصات. والذي غيّب ظهورهم وأبعدهم عن أضواء التعريف والإشهار، هم أولئك السدنة وصنمهم الذي كلما وجهت عليه الاضواء غارت أكثر تلك الأسماء الحقيقية وغابت في دهاليز العتمة والنسيان بعيدة عن المشهد لينطوي ذكرها وليضيع مجدها الذي حققته بشق الأنفس.

ولأن المصنمة أسماؤهم معروفون ومعلومون، فلن أمثّل عليهم ولكني أمثل على المغيبة أسماؤهم المضروبة عليها أستار الحجب من المفكرين والشعراء والقصاصيين والروائيين والفنانيين والتشكيليين. وأمثل بخاصة على أكثرهم غبنا وأشدهم حيفا من المفكرين كعلي الشوك ومحسن مهدي وعبد الفتاح ابراهيم وعبد الجليل الطاهر وهادي العلوي وفيصل السامر وصلاح خالص ونوري جعفر وحسام الالوسي وغيرهم كثر.

وسأخصص القول في هادي العلوي الاسم الفكري الذي يصح عليه الوصف بالفيلسوف بلا منازع أو معارض قط. فلقد كرّس حياته لدراسة الفكر الاسلامي حتى اكتشف مناطق غائرة في هذا الفكر لها صلات بالمذاهب والحركات فقهاً ولغةً وتفسيراً، فلم يكن منحازاً يدافع عن فكر ضد فكر كما لم يكن متحاملا وهو يحفر بمعاول البحث العلمي ليضع تفسيراته وتحليلاته بوازع فلسفي يراهن على العقل وتنويره ولا يولي المعتاد والمألوف بالا وأهمية؛ بل يكتب بحرية المفكر الذي خبر التاريخ الإسلامي بشكليه الرسمي والشعبي حتى عرف مغاراته ووطئ دروبا لم يطأها سابق، فكانت أطروحاته في مسائل اللقاحية والمشاعية والديمقراطية والاشتراكية والعلمية خاصة به وممهورة ببصمته.

عقل حر

لقد شق الفيلسوف هادي العلوي طريقه الفلسفي بعقل حر فلم يكن بالداعية الذي غايته النصح والموعظة كما لم يكن بالمؤدلج الذي غايته التوجيه والكسب، بل كان المفكر المنور الذي غايته التثقيف والتعريف والكشف.

إن فلسفية هادي العلوي هي في علميته التي كان يتوخى من ورائها الحقيقة ولذلك عاش غير مهادن ولا صاحب ولاء ومطلب وإنما اعتمد على قلمه فلم يسأل الناس شيئاً. وهو أمر عرفه عنه المقربون الذين يتفقون في شهاداتهم على ان العلوي لم يكن صاحب دنيا يبتغي من وراء فكره مغنما أو مصلحة بل كان كمثل الفلاسفة القدماء يعيش شظف العيش لكنه في منتهى الطاقة العلمية للبذل والعطاء.

وهذه منة ربانية وهبة سماوية لا يغدقها الرب سبحانه إلا على أولي الهمم والعزائم العالية فما أجدرنا ان نتمثل مسارات حياتهم ونستلهم دروس ما قدموه من عطاءات وانجازات. ومن يعد إلى كتب الفيلسوف هادي العلوي فسيجد فيها ألوانا من الغذاء المعرفي الذي يسمن من الجوع والفقر الفكري ولقد اجتمعت في فكره شتى صنوف العلم من تاريخ واجتماع ونفس ولغة وفقه وتفسير وأخلاق وجمال وأدب وسير وانثربولوجيا وفلكلور.

وبالطبع ليس يسيرا إحصاء مناقب هادي العلوي في مقال واحد، كعقل كبير واسم مهم يستحق ان تركز الأضواء على منجزه الفلسفي بغية تعريف الاجيال الجديدة به وبقلة من أمثاله السالكين دروب المعرفة الحاملين رسائل التنوير والتثقيف وليس التعصب والتجهيل.

ونأمل أن تكون مبادرة مؤسسة المدى للثقافة والفنون باطلاق اسم هادي العلوي على معرضها الدولي القادم للكتاب أول الغيث برفع الحيف عن هذا المفكر الكبير وهي مناسبة في إشهار اسم لم يشع لدى الجيل الجديد ولا يدري عن فلسفته وما قدمه للثقافة العربية من عطاءات وإبداعات أي شيء.. كما نحيي الكاتبة الكبيرة ” لطفية الدليمي” على تنويهها بمكانة هذا العلّامة الجليل ونقرُّ لها بالسبق في مسعى إنصافه ورفع الحيف عنه.

ومهما كانت إمكانيات المؤسسات الثقافية الحكومية وغير الحكومية كبيرة وهائلة في إبراز أصنامها وإضاءة ساحتهم عبر استقدامهم من أصقاع شتات الارض وصرف الاف الدولارات على مبيتهم وتجولاتهم ومطعمهم وملبسهم، فإنها ستزول في لمح البصر بمجرد وهج بسيط يظهر من اسم واحد من أسماء أعلامنا ومفكرينا الحقيقيين والإجلاء. ويبقى بالإمكان عمل المزيد في سبيل هذا التعريف. ولعل في ذلك الاحتفاء بدورة معرض الكتاب خطوة أولى تكفل للأسماء الفكرية الأخرى المغيبة والمغموط حقها أن تظهر فتزيح بظهورها الأسماء المصنمة لاسيما تلك الجوفاء التي لا منجز حقيقيا لها.

-azzaman


AM:01:50:06/11/2022